الاحتجاج الجماعى الذى يهز الجزائر منذ فبراير 2019 يحفر على مدى أسابيع متتالية خندقا عميقا، ان السلطة المدنية المنتقدة من قبل الشارع الجزائرى تقوم «قطرة»، قطرة، بتنازلات سياسية. هكذا يقرأ المراقبون الغربيون المسلسل الذى لُعب حول المصير الشخصى للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة.. ابتداء من الوعد بمدة رئاسية أخيرة . ان الفترة الانتقالية، سمحت لرئيس مجلس الأمة عبدالقادر بن صالح، والمخلص للرئيس بوتفليقة بأن يتعهد بمسئولية المدة الرئاسية المؤقتة وبإكساب بعض الوقت للنظام.. إن الرهان أصبح الآن متعلقا بإزاحة هذا الأخير.. وهكذا.. ان النظام يستعمل وفقا لخبراء السياسة الخارجية أدواته. وإمكاناته بسرعة كبيرة.. همه تحميل جماعة بوتفليقة فاتورة البؤس والشقاء الضخم الذى يندد به المتظاهرون.. ولذلك فلقد تفادى رئيس الأركان أحمد قايد صالح بعناية شديدة اللجوء إلى العنف. ويرى المراقبون أنه بلا شك عندما قاد رئيس الأركان الجزائرى عملية الانتقال، فإنه أراد أن يعيد إلى الجيش دوره المحورى فى قلب أزمة الأمة الجزائرية ليعيد تأكيد الترسيخ الشعبى للقوة العسكرية، ولضمان الاستمرارية بجميع الوسائل الخطابية والكلامية. مجرى الأحداث يبرهن على ان الشعب فى الجزائر أصبح زعيم التغيير وان الجماهير سيطرت على الإيقاع من خلال المظاهرات يوم الجمعة من كل أسبوع.. وفى مواجهة الوهن والسقم فإن الشعب الجزائرى يتشكل نصفه من الشباب الذى لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر ولم ينطلق فقط من أجل رفض جماعى بمصادرة السلطة لمصلحة فريق واحد ولكنه قرر أن يفعل ذلك من خلال التمسك بالتغيير والأداء الديمقراطى، وهذا الرفض يقدم وفقا للمراقبين ميزتين أو طابعين فريدين فى العالم العربي. من ناحية فإن جيل المتظاهرين لايعرف إلا القليل جدا عن «السنوات السوداء» للحرب الأهلية البشعة التى عاشتها الجزائر من 1991 إلى 2001 والتى تسببت فى عدد من الضحايا والأموات يتراوح ما بين 150 ألفا إلى 200 ألف فقيد..وهذا الجيل غير متأثر بهذه المأساة الكارثية التى يسترجعها كثيرا النظام للتحذير من المخاطر والفوضي، ولإسكات أى مطالبة بالحرية.. ومن ناحية أخرى فإن الطبقات المتعلمة قد استخلصت دروس دول الربيع العربي، والتى أدت إلى بزوغ الاسلاميين وإلى تفتت بعض الدول العربية مثلما جرى فى سوريا الشقيقة.. إن هذه التجربة المزدوجة تزيد من اهتمام المراقبين بمتابعة العصيان والتمرد فى الجزائر، وملاحظة وتحليل غياب الوسطاء مثل أحزاب المعارضة السياسية، والنقابات والجمعيات والإعلام، كما أنه رغم أساس الثقافة السياسية فإن الحركة تستأنف مسارها دون انزلاق أو تراجع. وبالتأكيد فإن أى مظاهرة قد تستطيع أن تنجرف إلى الأسوأ والأخطر، وبالطبع فإن الاسلاميين لم يقفوا مكتوفى الأيادي، وإنما الخطر الحقيقى كما يرى المحللون يكمن فى الإمكانية التى تتمتع بها دائما الانظمة السلطوية، وهى اللجوء إلى تصفية فريق السلطة دون الموافقة على تطوير النظام نفسه. فبعد أن حصل شعب الجزائر على الاستقلال الوطنى عام 1962 فإنه يجد نفسه يبحث الآن عن استقلاله الثانى والذى سوف يسمح لكل جزائرى بأن يحصل على حظه فى وطنه . والسؤال الذى يفرض نفسه هو كيف لم يخطط بوتفليقة الذى كان يتمتع بثقافة سياسية واسعة وكان من ألمع وزراء الخارجية العرب وله دراية بعلم المستقبل وحنكة دبلوماسية، وذكاء خارق أن يحصن شعبه من المجهول؟! .. إنها التراجيدية المتكررة والتى سوف يجيب عنها التاريخ. لمزيد من مقالات عائشة عبدالغفار