تتسارع وتيرة الاكتشافات العلمية فى مجال العلوم الأساسية والفيزياء النظرية، خاصة فيما يخص أبحاث الجاذبية، الأمر الذى ينبئ بعصر جديد من التكنولوجيا يطرق أبواب البشرية. فبعد ثلاثة أعوام من رصد موجات الجاذبية للمرة الأولي والناتجة عن اندماج ثقبين أسودين، تمكن العلماء الاسبوع الماضى من الكشف للمرة الأولي عن تصوير أفق الحدث لثقب أسود عملاق بمركز مجرة «إم 87»، الذى يبعد عن الأرض بنحو 55 مليون سنة ضوئية، وتصل كتلته إلى 6.5 بليون مرة ضعف كتلة الشمس، ويبلغ عرض الثقب الأسود 40 مليار كيلومتر، أى 3 ملايين ضعف حجم الكرة الأرضية. يقول د. وليد الحنفى بمركز الفيزياء النظرية - الجامعة البريطانية بمصر إن الثقوب السوداء هى إحدى تنبؤات النظرية النسبية العامة (1915) للعالم ألبرت أينشتاين، إلا أنه لم يتم رصد أى منها حتى ذلك الحين. والثقوب السوداء هى مرحلة أخيرة فى تطور النجوم ذات الكتل العالية، حيث تتقلص هذه الكتل الهائلة فى حيز صغير، مما يؤدى إلى طى شديد فى رباعية «الزمكان» حولها كما تتنبأ النسبية العامة. ومن أهم ما يميز الثقوب السوداء وجود غلاف يحيط بها يسمى «أفق الحدث» أو نقطة اللاعودة بحيث لا يستطيع أى جسيم الهروب من قبضة جاذبية الثقب الأسود حتى فوتونات الضوء. ويشير إلى أن الظاهرة التى تم رصدها وتدعى «الظل» المعتم تنتج عن وجود ثقب أسود فى مركز المادة التى تتشكل على هيئة قرص دائرى يتم امتصاصه إلى الثقب الأسود، مماينتج عنه تسخين هذه المادة تحت تأثير السرعات العالية، مما يؤدى إلى انبعاث إشعاعى بمختلف الأطوال الموجية (راديوية، سينية، جاما)، والذى يرى كحلقة تتناسب مع أفق الحدث، وما إن تتخطى هذه المادة نقطة اللاعودة أفق الحدث فإنها تختفى من على أفق الحدث المتوهج تلك الظاهرة تسمى بظل أفق الحدث. ومن الجدير بالذكر أن هذه الظاهرة قد تنبأ بها عالم الفيزياء باردين - جامعة واشنطن بولاية سياتل عام 1973كأحد نماذج الثقوب السوداء ويدعى نموذج كيرر، وهو الذى يصف خواص الثقوب السوداء ذات الدوران. ونظراً لصغر حجم هذه الظاهرة بالنسبة لبعدها عن الأرض فإنها تحتاج إلى تليسكوب راديوى بحجم الأرض كى يتمكن من رصد الظل المعتم. وهنا يأتى التحدى التقنى، حيث يجب اختيار الأماكن لإنشاء التليسكوبات الراديوية فى بقاع متفرقة من الكرة الأرضية بحيث تعمل جميعا كشبكة متكاملة، وهذا ما تم بالفعل حيث يتكون التليسكوب «أفق الحدث» من ثمانية مراصد راديوية متفرقة يستقبل كل منها كميات هائلة من البيانات، ولضمان حيادية النتائج فقد قسم فريق العمل إلى أربع مجموعات لتحليل البيانات كل على حدة. وجاءت النتائج بعد عمل مستمر لمدة سنتين منذ أبريل 2017 لتتفق مع ما تنبأت به معادلات أينشتاين منذ قرن من الزمان. ويؤكد د. الحنفى أن المشروعات البحثية المنتظرة بعد هذا الكشف يمكن أن تنقسم إلى قسمين: الأول يتمثل فى تحديات تقنية، حيث سيتم استخدام ترددات أعلى فى عمليات الرصد تصل من 230 إلى 340 جيجا هيرتز بدلا من 86، مما سيؤدى إلى تحسين جودة التصوير بشكل كبير، وفى هذه الحالة قد تسهم هذه الأرصاد فى فهم التدفق الإشعاعى الذى يصدر عن الثقوب السوداء بمراكز المجرات. كما سيتم تحليل بيانات ثقب أسود آخر كان قد تم رصده بالفعل ويقل حجمه ألف مرة عن الثقب الذى تم الإعلان عنه، والخطوة الطموحة المقبلة لفريق العمل هى الذهاب إلى نشر شبكة من التليسكوبات الراديوية فى الفضاء. أما القسم الثانى فهو اختبار ما لم يتم اختباره حتى الآن، على سبيل المثال هذه الأرصاد لم تخبر شيئا عن إشعاع هوكينج الذى يتنبأ بأن الثقب الأسود ليس أسود تماما، إذ إنه يفقد كتلته بشكل تدريجى عن طريق إشعاع حرارى كنتيجة لاستخدام ميكانيكا الكم. ويؤكد ضرورة تفعيل دور الجامعات ومراكز الأبحاث الأكاديمية المصرية فى بناء جسور من التعاون مع مثيلاتها فى العالم، مما يسهم فى تبادل المعرفة والارتقاء بمستوى البحث العلمى، ولتجهيز قاعدة علمية لعصر قادم ملىء بالمفاجآت. ويشير د. علاء إبراهيم، أستاذ الفيزياء الفلكية بجامعة القاهرة إلى أن علم الفلك يعتمد على رصد الضوء من الأجرام الفلكية فى الأطياف المختلفة، ولكن الثقوب السوداء شكلت استثناء لهذه القاعدة، فجميع الأدلة على وجودها غير مباشرة وتعتمد أساسا على رصد أجرام أخرى. وتمثل التحدى الأكبر فى رصد الثقوب السوداء فى الحاجة إلى تليسكوب عملاق فى حجم كوكب الأرض تقريبا، وهنا تضافرت الجهود لاستحداث تقنيات جديدة فى الرصد ومعالجة الصور، وتمكن العلماء من تخصصات مختلفة من دمج ثمانية مراصد فى أنحاء مختلفة من الأرض وربطها زمنيا بدقة متناهية باستخدام الساعات الذرية الفائقة الدقة لتحاكى تليسكوبا عملاقا بحجم الأرض. وقد أنتجت هذه التجربة التى هى بحق أكبر تجربة علمية على كوكب الأرض، تقنيات جديدة ستتحول فى الأعوام المقبلة لتطبيقات تكنولوجية حديثة فى مجالات تطبيقية مختلفة.