هل لدينا سردية تاريخية موضوعية لتاريخ نظام يوليو 1952، ومراحله المختلفة؟ هل يمكن الاطمئنان إلى السرديات الرسمية التى سادت فى مناهج التعليم، وكتب الإرشاد القومى ووزارات الثقافة والإعلام، وأجهزة الدولة الأيديولوجية؟ هل السرديات المضادة للإخوان المسلمين، وللجماعات اليسارية على اختلاف مسمياتها، وتحليلاتها للناصرية ولحكم أنور السادات ومبارك، وسواء أكانت هذه الجماعات والمنظمات الإسلامية واليسارية فى مراحل السرية، أو بعض من العلانية كما حدث بعد مصالحة السادات للإخوان المسلمين عقب أكتوبر 1973؟ ثمة حالة من عدم الاطمئنان لغالب هذه السرديات التاريخية التى لم يعتصم كتابها بالموضوعية والمناهج التاريخية الحديثة، وذهب غالبهم إلى الانحيازات الأيديولوجية والسياسية المسبقة الظاهرة أو المستورة والمضمرة فيما وراء كل راو للسردية وبنائها ولغتها ومصطلحاتها وأساليب البرهنة داخل بنية السردية ذاتها. غلب المجاز السياسى ولغة التفخيم، وبعض من المبالغات فى الأوصاف للأشخاص والسياسات والقرارات، وسواء أكانت سياسة المجاز إيجابية فى نعوتها أو ذهب المجاز إلى حد القدح واقتناص السلبيات، وإصدار أحكام القيمة الأخلاقية أو السياسية التى تشوه بعض السياسات والوقائع التاريخية والأشخاص. كلها علامات اعتلال فى الرؤى التاريخية المتحيزة التى وسمت النظرة إلى تاريخنا الوطنى الحديث والمعاصر، والتى تجد جذورها وظلالها فى الكتابة التاريخية عن الأديان وحركتها فى التاريخ المصرى. كل سلطة دينية لديها سردياتها الموروثة التى ينزع بعضها نحو الخلط بين سمو القيم الدينية ومعتقداتها، وبين حركة السلطان السياسى, دول وقادة وفقهاء ولاهوتيين وسلطات دينية, فى التاريخ، ومصالحهم الدنيوية، وصراعاتهم، وحروبهم.. إلخ. ثمة منهج يسود لدى بعض رجال الدين يذهبُ إلى عزل الفقه والإفتاء واللاهوت عن مراحل إنتاجه التاريخية وسياقاتها وصراعاتها السياسية والاجتماعية والدينية والمذهبية.. إلخ. هذا الاتجاه الذى يجافى المنطق التاريخى، يسود لدى بعض رجال الدين الرسميين، أو الدعاة، أو بعض منظرى الحركة الإسلامية السياسية فى الغالب الأعم الذين مالوا إلى الانحياز إلى قراءة أيديولوجية وانتقائية لصالح النسق التأويلى والأيديولوجى/ السياسى الذى توظفه كل جماعة لتحقيق أهدافها السياسية الوضعية، والذى تعتمد عليه فى إسترايتجيات الإفتاء، والتجنيد، والسيطرة التنظيمية الداخلية، وفى التنشئة العقائدية لأعضائها، والتعبئة الدينية الداخلية، وفى صراعاتها مع الدولة والنظام السياسى، بل وفى مواجهة المؤسسة الدينية الرسمية، والجماعات الإسلامية الأخرى. النزعات التحيزية واللاموضوعية تبدو سائدة لدى بعض منظرى الجماعات السياسية اليسارية، والليبرالية والإسلامية، بل ولدى بعض المؤرخين التاريخيين للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وتركيز بعضهم على تاريخ البطاركة، والقادة الدينيين، وليس حركة المصريين الأقباط فى إطار حركة المصريين جميعاً أيا كانت ديانتهم ومذاهبهم، وانتماءاتهم الاجتماعية. التاريخ الوطنى المصرى الحديث تسود بعض مراحله وجوانبه السرديات المتحيزة، والمفرطة فى استخدام المجازات السياسية حول الأحداث والوقائع، والشخصيات التاريخية لاسيما فى المرحلة شبه الليبرالية، وذلك فى ارتباط بعض السرديات بالأسرة العلوية، أو فى إطار الحركة الوطنية، وحزب أو جماعة داخلها.. إلخ. هذا الاتجاه العام لا يعنى غياب الدراسات التاريخية التى تعتصم بالمناهج التاريخية والروئ الموضوعية، والتى انتمى بعضها لمدرسة التاريخ الاجتماعى وبعض مؤرخيها الذين أبرزوا حركة القوى الاجتماعية فى السياسات والأحداث التاريخية الكبرى على المستويات السياسية، أو الاجتماعية أو الاقتصادية، وفى التأريخ للحركة الثقافية وإنجازاتها على قلتها. أحد أبرز التحيزات الأيديولوجية تمثل فى نظرة يوليو 1952 على أهمية دورها فى التاريخ المصرى فى النصف الثانى من القرن العشرين فى رؤيتها وتقييماتها لتاريخنا منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى نهاية المرحلة شبه الليبرالية، وهو ما ركزت عليه الكتب المقررة فى مادة التاريخ، وهو انحياز رمى إلى تعظيم حركة القوى الشعبية فى مسارات التاريخ المصرى، وهو أمر مهم، لكن فى حدود الموضوعية وعدم التأويل المفرط، أو القراءة المتحيزة إزاء بعض الشخصيات التاريخية. تعرض قادة يوليو إلى بعض المجاز المفرط فى تقريظ قائد كل مرحلة فى المناهج التعليمية المقررة، أو إلى النقد الأيديولوجى والقدحى بعد رحيل بعض الشخصيات، ووصول قيادة جديدة للحكم، حدث هذا مع عبد الناصر القائد الوطنى الكاريزمى الكبير فى تاريخ مصر بعد يوليو، والمنطقة العربية، وذلك على الرغم من عديد السلبيات فى بعض السياسات أو القرارات أو الاختيارات. بعضهم يتناسى أدواره الكبرى فى حركة عدم الانحياز، وفى سياساته الاجتماعية، ويركز على التسلطية السياسية فى مجال فرض القيود على الحريات العامة والمبادرات الفردية والأهلية، وهى أخطاء وأعطاب لا يمكن نكرانها، إلا أن النظرة الأحادية المفرطة فى القدح، لا ترى إلا وجها من وجوه الحقيقة التاريخية المتعددة، التى ركزت عليها بعض القراءات التاريخية المتحيزة لبعض الليبراليين، والماركسيين، بينما انحاز بعض ممن ينتمون لهذين الاتجاهين إلى الموضوعية ولكنهم قلة قليلة، ولا يزال بعض هذه الجماعات السياسية تعيد إنتاج مجموعة من المقولات والأحكام الأيديولوجية الأحادية، دونما انضباط منهجى. ثمة أيضا قدح من أجهزة الدولة الإيديولوجية فى عهد السادات، إلى المرحلة الناصرية وشخصية عبد الناصر على نحو ما شاهدنا وقرأنا وسمعنا. هذا الاتجاه جنح إليه الإعلام فى عهد مبارك، بعد اغتيال السادات وفتح المجال لنقد مرحلة حكمه! وهكذا تسعى كل سلطة ونخبة حاكمة إلى نقد المراحل التاريخية وقيادتها الكبرى، وذلك فى محاولة لبناء شرعيتها السياسية من خلال مادة التاريخ ومنهجها التعليمى المقرر، أو خطاب أجهزتها الأيديولوجية، وإلى جانب الرؤية السلطوية التى يكتبها مؤرخو كل مرحلة. من هنا تبدو قليلة الكتابات الموضوعية والمنهجية الصارمة حول تاريخ مصر كله بعصوره ومراحله التاريخية المختلفة. تبدو الحاجة ملحة لمرجع شامل وموضوعى عن التاريخ المصرى بمراحله المختلفة، إلا أن ذلك يحتاج إلى جهد علمى كبير ونظرة تركيبية، ووضوح للرؤية والانضباط المنهجى، وستقف بعض التحيزات السلطوية والأيديولوجية عائقاً إزاء تقديم مراحل تاريخنا المختلفة بموضوعية فى بناء سردياته حول كل عصر ومراحله، وذلك لكى يتم تأسيس نظرات حول تاريخنا متحررة من الأيديولوجيات والتحيزات والسرديات المجازية والتخييلية المفرطة. لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح