رحل الرئيس الجزائرى عبد العزيز بوتفليقة عن المسرح السياسى الجزائري، بوصفه الشخصية الأولى فى قائمة المغادرين بفعل الموجة الثانية من الربيع العربي، إلا أن الأمر هذه المرة مختلف، فلا توجد حالة من الفرحة العارمة فى الأجواء العربية، بل فى الأوساط الجزائرية ثمة مخاوف وحذر، بل هواجس كثيرة وأسئلة أكثر بشأن اليوم التالى. وأحسب أنها أسئلة مشروعة من عينة: هل تقف الموجة الجزائرية عند حدود الجزائر أم سيكون لها ارتدادات؟ ولماذا فشل بوتفليقة رغم نجاحه فى تحقيق المصالحة، وتجنيب بلاده الموجة الأولى من الربيع العربي؟ وهل تعلم الجزائريون من تجارب دول الجوار، أم سيتعرضون لجهة تسرق حراكهم؟ وهل هناك البديل القادر على تحقيق المطالب الشعبية، وما مدى واقعية نسف النظام بأكمله، وليس فقط بعض الشخوص الفاسدة والكريهة، وأى نموذج سوف يفاجئنا، هل نموذج العراق، ام نموذج تونس؟ وهل يدرك الشعب الجزائرى ومن خلفه بقية الشعوب العربية أن رحيل بوتفليقة هو بداية المباراة وليس نهايتها، وأن الثورات سواء أكانت ربيعا أم عنيفة سوف تنشر الفوضى، ترى هل الشعوب مستعدة لتحمل الثمن، والعبور بأقل الاضرار أم أن عشرية سوداء جديدة فى الانتظار؟!ولكن رحلة بوتفليقة مابين البداية والنهاية تثير قدرا كبيرا من التساؤلات حول أوضاعنا العربية ولماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه الان؟. ودع بوتفليقة شعبه منهكا مرهقا وهو يسلم رسالة الاستقالة لرئيس المجلس الدستورى، وهو آخر ما كان يأمل أن ينهى به رحلته، وبرغم كل ما يمكن أن يؤخذ شخصيا عليه، فلا يملك المرء إلا أن يشعر بالأسى لأن الرجل الذى قدم للجمعية العامة للأمم المتحدة ياسر عرفات، وساهم فى تحقيق السلام بين العراق وإيران واستكمل مشروع المصالحة الوطنية التى أطلقها الرئيس الجزائرى اليمين زروال، هذا الرجل يتعرض اليوم للتشفى والشماتة مثلما يقول الكاتب الكبير محيى الدين عميمور، وحقيقى أنه يتحمل المسؤولية الأولى فى هذه النتيجة المؤلمة لأنه لم يتخذ القرار المناسب فى الوقت المناسب، لكن هذا ليس وقت تحديد كل المسئوليات، وهو آت لا شك عن قريب. وهنا يفرض السؤال نفسه لماذا لم يترجل من المسرح، ويحافظ على تاريخه، وهل يتحمل وحده كل ما حدث؟! ومن الملاحظ هنا فى سياق من المسئول عما حدث بيان قائد الجيش قايد صالح حول الاجتماعات المشبوهة التى تعقد فى الخفاء من أجل التآمر على مطالب الشعب، وتبنى حلول مزعومة خارج نطاق الدستور من أجل عرقلة مساعى الجيش الجزائري، ومقترحاته لحل الأزمة، وبالتالى تأزم الوضع أكثر فأكثر، ووصف قائد الجيش الجزائرى مقربين من محيط الرئيس بوتفليقة بالعصابة التى نهبت مقدرات البلاد، وجاء فى البيان بخصوص عمليات النهب التى عاشتها البلاد وتبذير مقدراتها الاقتصادية والمالية فقد تساءل السيد الفريق كيف تمكنت هذه العصابة من تكوين ثروات طائلة بطرق غير شرعية وفى وقت قصير دون رقيب ولا حسيب، مستغلة قربها من بعض مراكز القرار المشبوهة، وها هى تحاول هذه الأيام تهريب هذه الأموال المنهوبة والفرار إلى الخارج. وأحسب أن السؤال مشروع ولكنه يطول الجميع سواء بمحاولة الإجابة عنه، أو تفسير لماذا سكت الجميع طوال كل تلك الفترة، ولماذا لم يعرف ولم يكشف عن كل هذا الفساد إلا لحظة رحيل أو إزاحة بوتفليقة عن المشهد السياسى برمته؟! وفى الوقت نفسه يرى عميمور أن العناية الإلهية أعطت اليوم قيادات المعارضة الفرصة لإثبات وجودها كقوة مؤثرة تدفع لاتخاذ مواقف متعقلة قد لا تتماشى بالضرورة مع كل الهتافات فى الشارع، ولكنها ضرورة لضمان الانتقال السلس للسلطة، وهذا هو الفرق بين النسور التى تقف على القمم الشماء والجوارح التى تنتظر الفرصة لتنهش الجثث. وأحسب أن الكاتب الجزائرى الكبير مغرق فى أحلامه بشأن الترفع عن نهش الجثث، أو المزايدة والتكالب من أجل الوثوب على السلطة فى العالم العربى. وربما أقصى ما يمكن للمرء تصوره هنا أن يترك الموتى الأحياء فى حال سبيلهم ولكن أطراف الصراع الذين خسروا فعليهم أن يتذكروا المقولة الشهيرة ويل للمهزوم فى العالم العربى. وفى الوقت الذى تتصاعد فيه حدة الموقف يأمل البعض بأن يدرك الشعب أن من واجبه دعم موقف المؤسسة العسكرية، مهما كانت تحفظاته على تشكيل الحكومة أو رئاسة الدولة، لأنه يعرف أن هؤلاء سيمارسون مهمة محددة تحت عين الجيش الوطنى الشعبي. ويبقى أن رحيل بوتفليقة يظهر أن عواصف الربيع العربى لا تزال نشطة لأن الأمل بالتغيير لايزال قائما ولكن لا يزال من غير المرجح أن يجر دولا أخرى إلى نفس الوضع مثلما حصل عام 2011 ، فمن الواضح أن حركات الاحتجاج متنوعة جدا، وكل واحدة لها ظروفها الخاصة، ويرى البعض أن المتظاهرين استخلصوا العبر حين رأوا سوريا وليبيا تغرقان فى الفوضي، وأن الناس يأخذون المزيد من الاحتياطات لتجنب أن تتحول الآمال إلى كوابيس. وهذه النتيجة البائسة هى أشد ما يقلق الكثير من العقلاء فى العالم العربي،وبالرغم من أهمية بل حتمية الانتباه إلى حقيقة أن الشارع يعاني، والكثير من تطلعاته لم تتحقق، وأن الفساد مازال كبيرا، وأن حجم الغضب هائل، ولكن فى المقابل لابد من توعية الناس بأن طريق الإصلاح طويل، وأن تغيير الوجوه وتطبيق الديمقراطية لن يحقق الآمال فى لحظة، ولا مفر من العمل بقوة لتعويض ما فات. لمزيد من مقالات محمد صابرين