ردود الفعل المتشنجة للرئيس التركى أردوغان وحزب العدالة والتنمية تكشف عن مدى الصدمة من نتائج الانتخابات المحلية، والتى فقد فيها أهم المدن الكبرى، ليس العاصمة أنقرة فقط، بل اسطنبول، التى يقال أن من يحكمها يحكم تركيا، ليس لأنها أكبر المدن فى عدد السكان والعاصمة الاقتصادية، بل لأن سكانها متنوعون ويمثلون كل أقاليم وأحزاب وأعراق تركيا، لهذا جاء الطعن فى نتائج اسطنبول. أردوغان هو من وصف الانتخابات المحلية فى تركيا بأنها مصيرية، ربما ليشد أزر مناصريه، لكنه بالفعل خاضها وكأنها معركة حياة أو موت، فعلى مدى شهرين كان يتنقل يوميا بين المدن، ويلقى بخطاب فى مؤتمر جماهيرى كل يوم، وأحيانا مرتين فى مدينتين مختلفتين فى اليوم الواحد، وصوره الضخمة على الطرقات والميادين وكأنها انتخابات رئاسية وليس لانتخاب رؤساء الأحياء والمدن والمحافظين، ولم يكن الطعن فى النتائج هو مؤشر القلق الأكبر، بل ارتفع مؤشر التشكيك إلى وصف النتائج بأنها تشبه محاولة الانقلاب التى تعرض لها أردوغان فى صيف 2016، وبلغ الأمر بالصحف الموالية لأردوغان إلى القول إن مالم يتحقق بالانقلاب يتحقق بالانتخاب، هنا تكمن الخطورة، ويبدو أن الانتخابات المحلية مصيرية بالفعل، وأنها نقطة تحول جديدة على عدة مسارات، أولها أنها يمكن أن تكون الأخطر على المسار الديمقراطي، فقد جاء أردوغان إلى السلطة وفاز بالرئاسة والأغلبية البرلمانية عن طريق الديمقراطية، لكنه وجه إليها عدة ضربات قوية عقب محاولة الإنقلاب، بالتوسع فى الاعتقالات والفصل من الوظائف، والعصف بالقضاة وأساتذة الجامعات وحتى أعضاء بالبرلمان وصحفيين وإعلاميين، لكن الخطوة الأهم كانت بالتحول إلى النظام الرئاسى، وتنظيم إستفتاء فاز فيه أردوغان بأغلبية بسيطة للغاية عكست الانقسام الحاد داخل المجتمع التركي، وكانت طلقة تحذير من المضى فى طريق حكم الرجل الواحد، لكن أردوغان العنيد لا يرى إلا نفسه، حتى أنه اعتبر الانتخابات المحلية استفتاء حول شخصه، ومن هنا شعر بفداحة الخسارة، خصوصا فى اسطنبول التى كانت نقطة انطلاق من منصب عمدة إسطنبول إلى الرئاسة. تواصل الصحف الموالية لأردوغان اتهاماتها لحزب الشعب المعارض بأنه متحالف مع الإرهابيين، فى إشارة إلى أنه حصل على تأييد حزب «الشعوب» الكردى فى الانتخابات المحلية، ولأن حزب الشعوب الكردى متهم بأنه حليف لحزب العمال الكردى المتهم بالإرهاب، فقد تم دمغ الحزب الجمهورى بالإرهاب أيضا، وهى إشارة شؤم أخرى على مستقبل الديمقراطية فى تركيا، ولهذا فقد تشهد تركيا عمليات حصار وتشويه لحزب الشعب المنافس، ومحاولة خنقه فى المدن التى فاز فيها، بالإضافة إلى الإساءة إلى قياداته، لكن الأزمة الحقيقية فى حزب العدالة والتنمية تكمن فى أن أردوغان لا يريد قيادات قوية إلى جانبه، فقد سبق أن أطاح بأكبر مساعديه ممن يتمتعون بنفوذ وخبرة وقبول شعبى، منهم الرئيس السابق عبد الله جول ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، لكن إذا شن أردوغان حملة تغيير واسعة داخل الحزب يمكن أن تؤدى إلى عملية انشقاق واسعة، وفى هذه الحالة يمكن أن يظهر حزب منافس خطير بقيادة أحد أعمدة الحزب السابقين، الذين أطاح بهم أردوغان، ليكون قد دق مسمارا قويا فى نعش الحزب الحاكم وليس فقط مستقبله السياسى. يواجه أردوغان عددا من التحديات الخطيرة فى الشهور القليلة المقبلة، أولها الأزمة الاقتصادية العميقة، والتى يحاول أن يمنع تفاقمها بشتى السبل، لكنها عصية على الحل حتى الآن، رغم الإجراءات المالية القاسية لوقف تراجع الليرة أمام الدولار، وليس أمام أردوغان حلول كثيرة، فالشعب التركى لن يتحمل المزيد من الأعباء وفقا لنتائج الانتخابات، ويبقى أمامه اللجوء إلى صندوق النقد الدولى بشروطه وضغوطه، أما الاتحاد الأوروبى فلن يكون كريما مع أردوغان مثلما كان فى بداية حكمه، كما أن الاتحاد يمر بضائقة مالية، تشهد عليها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا واليونان، وإن كانت ألمانياوفرنسا لا ترغبان فى رؤية الاقتصاد التركى ينهار، ومن هنا فإن على أردوغان أن يتخذ خيارا صعبا. أما التحدى الآخر فهو العلاقة المتدهورة مع الولاياتالمتحدة، وأن يختار بين المضى فى شراء منظومة الصواريخ الروسية إس 400 أو الطائرة الأمريكية إف 35، وما يستتبعه هذا الخيار من تداعيات، تصل إلى حد التلويح بالخروج من حلف الناتو، وعلى أردوغان إما أن يواصل العناد مع الإدارة الأمريكية، أو يحاول تمرير الوقت حتى الانتخابات الأمريكية المقبلة، أو يواصل التحدى بالمزيد من التقارب مع روسيا والصين وإيران، لكن الطريق إلى روسيا ليس مفروشا بالورد، فأمام أردوغان خطوتان مطلوبتان من روسيا، الأولى نزع أسلحة الجماعات الإرهابية فى إدلب، والثانية الالتزام بخطة روسيا فى حل أزمة شرق الفرات، بما يعيد سيطرة الجيش السورى على كامل شمال سوريا. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد