يهتم الإنسان بالمعرفة ويكرس لها قدرا كبيرا من جهده العقلى. ولكن هل يسعى الإنسان باهتمامه هذا إلى معرفة الحقيقة أم إلى الحصول على الحرية؟ الإجابة الأقرب للحس المشترك هى أن الإنسان لديه دافع نفسى قوى لمعرفة الحقيقة والبحث عنها. ومن هنا يكتسب العلم قيمته، فهو فى مواجهة الأحكام المسبقة والأفكار الخرافية والأساطير يتسم بالصدق وبأن ما يخبر به يكون مطابقا للواقع، وبالتالى أصبح العلم يحتكر التفسير الحقيقى للظواهر. انسحب هذا التقدير لمكانة العلم إلى العلماء أنفسهم، فصاروا محل تبجيل وتعظيم. ولقد عرف البشر خلال تاريخهم مجموعات أخرى استحوذت على نفس المكانة مثل العرافين ورجال الدين والحكام والفلاسفة، ولكن البشر في سعيهم إلى التحرر من كل صور التسلط قد أعادوا صياغة العلاقة بينهم وبين هذه المجموعات. ولو نظرنا اليوم حولنا لوجدنا الناس يقبلون بسهولة أن توجه انتقادات لرجال الدين أو لرجال السياسة أو للفنانين، لكنهم رغم ذلك يتحفظون بشدة حينما يوجه أى نقد إلى العلماء. لقد اكتسب العلماء حصانة مازالت فعالة إلى الآن، وهم يميلون إلى المحافظة عليها من خلال المبالغة في تقدير منفعة العلم للبشر وشموله لكل مجالات الحياة الانسانية. لو نظرنا إلى تاريخ المعرفة من منظور آخر لتغير تقديرنا للوضع. فسعى الإنسان إلى المعرفة كان الهدف منه اكتساب مزيد من الحرية، وقد كانت الأساطير الأولى محاولة من الإنسان لاكتساب الحرية فى مواجهة الطبيعة الغامضة والكائنات الحية الأخرى المتربصة به. أدت الأساطير هذا الدور لفترة من الزمان ثم تحولت بعد ذلك إلى سلطة قاهرة تقف فى وجه حرية الإنسان. وتمثلت إحدى وسائل الإنسان فى التخلص من هذه السلطة فى التوصل إلى نوع جديد من المعرفة يستند إلى العقل أو إلى التجربة. وكان حماس الناس للنظريات العلمية لدى كوبرنيقوس وجاليليو ونيوتن ليس بسبب أن نظريتهم تعبر عن الصدق وتكشف عن الحقيقة، وإنما لأنها تضعف سلطة رجال الدين القابضة على مصائرهم. ويرى الفيلسوف النمساوى بول فايرابند أن دور العلم فى هذه الفترة كان ثوريا لأنه يساند البشر في مسيرتهم للحصول على الحرية، أما الآن فقد تحول بدوره إلى سلطة محصنة ضد النقد وقابضة على مصير البشر، أي أنه باختصار أصبح عقبة في وجه تحرر الانسان. وقد آن الأوان فى نظرهةلمراجعة العلماء وتوجيه النقد لهم خصوصا وقد أصبح باديا للعيان أن منتجات العلم ليست كلها مزايا بل فيها ما يؤدى إلى ضرر بالإنسان. وفي هذا الإطار سعى فايرابند إلى تحطيم ماينتجه العلماء حول العلم من أساطير مثل المنهج المنضبط والاتساق بين نظريات العلم وبعضها بعضا والقابلية للتحقق من صدق النظرية وغيرها. لو ربطنا بين الحرص على المعرفة والسعى إلى الحرية فسوف يتكون لدينا منظور جديد نتناول به تاريخ الأفكار. يقول فايرابند إن الحرية قيمة إيجابية مطلوبة، وكذلك الصدق هو أيضاً قيمة إيجابية ومطلوبة، ولكن إذا تعارض الصدق مع الحرية فإن الأولوية يجب أن تكون للحرية. من هذه الزاوية يمكن لنا أن نفسر مدى التأثير الذى رافق صدور كتب معينة فى تاريخ الفكر. فهناك كتب مثل مقال فى العبودية المختارة لدو لابويسى والذي يرصد فيه مستنكرا استمراء الناس للخضوع والطاعة ورضاهم بالعبودية؛ ومقال عن المنهج لديكارت الذي دعا فيه إلى أن يكون العقل هو المرجع الوحيد للحكم على حقيقة الأشياء, ومقال فى أصل عدم المساواة بين البشر لجان جاك روسو وهو صرخة ضد التمييز بين الناس في حين أنهم من حيث الأصل متساوون, وماهو التنوير لكانط والذي يدعو فيه الإنسان لاستخدام عقله بعيدا عن أي وصاية؛ والبيان الشيوعى لماركس وانجلز وهو دعوة للتحرر الإنساني الشامل من الاستغلال. هى كتب صغيرة تم استقبالها بحفاوة كبيرة وسرعان ما ترجمت إلى لغات عديدة، ولو بحثنا عما تحمله هذه الكتب من الحقيقة العلمية أو الصدق لن تكون الحصيلة كبيرة ولكن الاهتمام بها جاء بسبب كونها صيحات من أجل التحرر. الكتب التى ذكرناها سالفا تنتمى كلها إلى الثقافة الغربية لكنها حظيت بانتشار كبير خارجها. ولاشك فى أن كل ثقافة انسانية بها نماذج من هذه الكتب التى تنشد الحرية أكثر مما تنشد الحقيقة. ويمكن للترجمة أن تساعدنا في التعرف على ما تتضمنه ثقافات الشعوب من نزوع إلى الحرية يتجلى في صور شتى من إنتاجها الفكري. ولكن يكفينا الآن أن ننظر إلى ثقافتنا العربية المعاصرة لنجد كتبا مثل تلخيص الإبريز للطهطاوى، وتحرير المرأة لقاسم أمين، وطبائع الاستبداد للكواكبى، والإسلام وأصول الحكم لعلى عبد الرازق، وفى الشعر الجاهلى لطه حسين، كلها كتب تحتل مكانة بارزة فى فكرنا العربى المعاصر ليس بفضل ما تتضمنه من صدق ولكن بفضل ما تسعى إليه من تحرر. ومع كل ما ذكرناه لا يمكن أن نغفل الدور الحاسم للأدب والفن في تقدم الإنسان نحو الحرية. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث