تعلمنا فى المدرسة أن العلم يتقدم باستمرار من خلال التراكم، فكل عالم يأتى ليضع طوبة جديدة فى بناء صرح المعرفة. وهذا التصور يفترض أن إنتاج نظريات العلم يتم بنفس الطريقة مهما اختلفت العصور. ولكن جاءت التصورات الحديثة فى فلسفة العلوم لتبين لنا أن العلم يتقدم من خلال الانقطاع وليس من خلال التواصل. فالنقلات الكبرى فى تاريخ العلم تتم من خلال قطيعة معرفية مع طريقة التفكير السابقة، ودون هذه القطيعة لا يحدث تقدم. والفيلسوف الفرنسى جاستون باشلار صاحب مصطلح القطيعة المعرفية، يوضح لنا معناها من خلال مثال المصباح الكهربى. فلقد تعودنا على مدى قرون طويلة على أنه لكى ننير مكاناً علينا البحث عن مادة قابلة للاشتعال مثل قطعة خشب أو شمعة أو فتيل مغمور فى زيت، ويتم إشعاله فى مكان به غاز يساعد على الاشتعال وإذا لم يتوافر ذلك لن يكون هناك نور. حتى جاء اختراع المصباح الكهربائى الذى يحقق نفس النتيجة ولكن من خلال عناصر أخرى مغايرة تماماً، إذ يلزم سبيكة من معدن غير قابل للاشتعال وغاز خامل لا يساعد على الاشتعال، ورغم ذلك فهو ينير المكان. انتقلت فكرة القطيعة من العلم إلى مجالات فكرية أخرى. فيرى الفيلسوف ميشيل فوكو أن لكل عصر منظومته المعرفية وهو مايطلق عليه الإبستيمية، ويعنى بها الطريقة التى يتم من خلالها إنتاج الحقيقة. ففى القرن السابع عشر كانت الإبستيمية السائدة هى التصنيف، حيث كان يتم تصنيف التنوعات الكبيرة من الحيوانات داخل عائلات كبرى مثل السنانير واللافقاريات وغيرهما. حتى جاء القرن التاسع عشر فصارت هناك إبستيمية جديدة مختلفة هى التجريب. فلم يعد ممكناً تأكيد حقيقة شىء إلا إذا ثبت بالتجربة. وخضوعاً لهذا المعيار ظهر لأول مرة فى تاريخ الفكر البشرى جلسات تحضير الأرواح! فكثير من ثقافات البشر تؤمن بوجود الأرواح منذ قرون طوال ولكن لم يخطر على بال أى واحد من المنتمين لهذه الثقافات أن يقوم بتحضير روح شخص متوفى، ولكن ما أن أصبحت التجربة هى معيار الحقيقة حتى شرع البعض فى إثبات وجود الروح من خلال التجربة. نفس الفكرة عبر عنها الفيلسوف الأمريكى توماس كون فى كتابه «بنية الثورات العلمية» مستخدماً مصطلحاً آخر وهو البارادايم الذى ترجمه الأستاذ شوقى جلال إلى العربية بمصطلح النموذج الإرشادى. وتقوم فكرته على أن لكل عصر نموذجا إرشاديا هو الذى يحدد طريقة انتاج المعرفة العلمية، وهو يختلف من عصر لعصر. فالنموذج يبدأ فى إنتاج نظريات تنجح فى تفسير الظواهر المحيطة، ومع تقدم العلوم تتزايد الظواهر التى لا تجد تفسيراً ، أو ما يطلق عليه فى مجال العلوم بالشواذ وهنا يدخل العلم كله فى أزمة لا تُحل إلا باكتشاف بارادايم جديد يستطيع أن ينتج نظريات تكون ذات قدر تفسيرى أكبر. والنموذج الذى يقدمه لنا كون هو الانتقال من فيزياء نيوتن إلى فيزياء أينشتين صاحب نظرية النسبية. عالم الفيزياء البولندى فيورتوف كابرا الحاصل على جائزة نوبل عام 1973 يلتقط نفس فكرة توماس كون ولكن يضيف إليها أبعاداً سياسية واجتماعية واقتصادية. فيرى أن الانتقال فى علم الفلك من فكرة مركزية الأرض التى كانت سائدة فى العصور الوسطى إلى فكرة مركزية الشمس التى قال بها كوبرنيقوس وجاليليو كان له أثر كبير فى نشأة المجتمع الحديث. وكذلك فالانتقال حالياً إلى نموذج إرشادى جديد سيكون مبشراً بتأسيس مجتمع جديد. وهذا النموذج الجديد سوف يتجاوز أربعة مكونات وصلت بحضارتنا إلى أزمتها الراهنة: المكون الأول هو النموذج الارشادى النابع من فلسفة ديكارت والذى يربط إنتاج الحقيقة العلمية بالتحليل أى بالوصول إلى أبسط العناصر، وعلى هذا الأساس انتقل العلم من دراسة جسد الإنسان إلى دراسة الأجهزة ثم إلى دراسة الأنسجة ثم إلى الخلايا، ومن الخلايا إلى الجينات ثم الحامض النووى. ولكن العلم البديل سوف تكون له نظرة أكثر شمولية تدرس الإنسان فى علاقته بالواقع المحيط. المكون الثانى هو فيزياء نيوتن التى أصبحت علماً قياسياً تسير باقى العلوم على منواله، والتى أدخلت أفكارا مثل الحتمية والموضوعية لأنها تدرس أشياء، فى حين أن العلم الحديث يدرس علاقات بين أشياء هى بدورها علاقات. المكون الثالث هو الثقافة الذكورية التى أدت إلى إنفاق الأموال الطائلة على اختراع الأسلحة المدمرة وتشييد ناطحات السحاب، فى حين يتجه العلم الجديد إلى البساطة وأنسنة التكنولوجيا. المكون الرابع هو النظام الرأسمالى الذى يقوم على السعى إلى الربح الذى يستلزم زيادة الاستهلاك وبالتالى زيادة الإنتاج، أى استنفاد مورد الطبيعة. وهكذا فى نظر كابرا الانتقال إلى علم جديد يعنى الانتقال إلى عالم جديد. لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث