تراجع عيار 21 الآن.. سعر الذهب في مصر اليوم السبت 11 مايو 2024 (تحديث)    الزراعة: زيادة الطاقة الاستيعابية للصوامع لأكثر من 5 ملايين طن قمح    الإمارات تستنكر تصريحات نتنياهو بدعوتها للمشاركة في إدارة مدنية بغزة    مستشار رئيس فلسطين: سنواصل النضال الدبلوماسي حتى نيل حق العضوية الأممية الكاملة    عاجل - الخارجية الأمريكية تعلق على استخدام إسرائيل أسلحتها في انتهاكات دولية    مجلس الأمن يؤكد على ضرورة وصول المحققين إلى المقابر الجماعية في غزة دون عائق    يوسف الجزيري: الزمالك بكامل تركيزه أمام نهضة بركان في ذهاب نهائي الكونفدرالية    نتائج اليوم الثاني من بطولة «CIB» العالمية للإسكواش المقامة بنادي بالم هيلز    شوبير يزف خبرًا سارًا لجماهير الأهلي قبل مباراة الترجي التونسي    الاتحاد يواصل السقوط بهزيمة مذلة أمام الاتفاق في الدوري السعودي    مصرع شاب غرقًا في بحيرة وادي الريان بالفيوم    تهاني عيد الأضحى 2024: رسائل مختلفة معبرة عن الحب والفرح    بتوقيع عزيز الشافعي.. الجمهور يشيد بأغنية هوب هوب ل ساندي    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    مندوب مصر لدى الأمم المتحدة: ما ارتكبته إسرائيل من جرائم في غزة سيؤدي لخلق جيل عربي غاضب    الطيران المروحي الإسرائيلي يطلق النار بكثافة على المناطق الجنوبية الشرقية لغزة    تفاصيل جلسة كولر والشناوي الساخنة ورفض حارس الأهلي طلب السويسري    مران الزمالك - تقسيمة بمشاركة جوميز ومساعده استعدادا لنهضة بركان    نيس يفوز على لوهافر في الدوري الفرنسي    على طريقة القذافي.. مندوب إسرائيل يمزق ميثاق الأمم المتحدة (فيديو)    ضبط المتهم بقتل صديقه وإلقائه وسط الزراعات بطنطا    أنهى حياته بسكين.. تحقيقات موسعة في العثور على جثة شخص داخل شقته بالطالبية    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    حار نهاراً.. ننشر درجات الحرارة المتوقعة اليوم السبت فى مصر    مصرع شخص واصابة 5 آخرين في حادث تصادم ب المنيا    «آية» تتلقى 3 طعنات من طليقها في الشارع ب العمرانية (تفاصيل)    حكومة لم تشكل وبرلمان لم ينعقد.. القصة الكاملة لحل البرلمان الكويتي    انخفاض أسعار الدواجن لأقل من 75 جنيها في هذا الموعد.. الشعبة تكشف التفاصيل (فيديو)    «عشان ألفين جنيه في السنة نهد بلد بحالها».. عمرو أديب: «الموظفون لعنة مصر» (فيديو)    عمرو أديب عن مواعيد قطع الكهرباء: «أنا آسف.. أنا بقولكم الحقيقة» (فيديو)    سيارة صدمته وهربت.. مصرع شخص على طريق "المشروع" بالمنوفية    طولان: محمد عبدالمنعم أفضل من وائل جمعة (فيديو)    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    حج 2024.. "السياحة" تُحذر من الكيانات الوهمية والتأشيرات المخالفة - تفاصيل    تراجع أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 11 مايو 2024    حظك اليوم برج الجوزاء السبت 11-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    تراجع أسعار النفط.. وبرنت يسجل 82.79 دولار للبرميل    محمد التاجى: اعانى من فتق وهعمل عملية جراحية غداً    وظائف جامعة أسوان 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    إدراج 4 مستشفيات بالقليوبية ضمن القائمة النموذجية على مستوى الجمهورية    زيارة ميدانية لطلبة «كلية الآداب» بجامعة القاهرة لمحطة الضبعة النووية    أخبار كفر الشيخ اليوم.. تقلبات جوية بطقس المحافظة    لتعزيز صحة القلب.. تعرف على فوائد تناول شاي الشعير    لماذا سمي التنمر بهذا الاسم؟.. داعية اسلامي يجيب «فيديو»    مادلين طبر تكشف تطورات حالتها الصحية    "سويلم": الترتيب لإنشاء متحف ل "الري" بمبنى الوزارة في العاصمة الإدارية    آداب حلوان توجه تعليمات مهمة لطلاب الفرقة الثالثة قبل بدء الامتحانات    حسام موافي يكشف أخطر أنواع ثقب القلب    5 نصائح مهمة للمقبلين على أداء الحج.. يتحدث عنها المفتي    فضائل شهر ذي القعدة ولماذا سُمي بهذا الاسم.. 4 معلومات مهمة يكشف عنها الأزهر للفتوى    نائب رئيس جامعة الزقازيق يشهد فعاليات المؤتمر الطلابي السنوي الثالثة    بالصور.. الشرقية تحتفي بذكرى الدكتور عبد الحليم محمود    واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن العامة، الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة القادمة    محافظة الأقصر يناقش مع وفد من الرعاية الصحية سير أعمال منظومة التأمين الصحي الشامل    دعاء الجمعة للمتوفي .. «اللهم أنزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تغريدات (5)
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 03 - 2019

أم الشاعر والمشاعر.. أم المعتز. فائزة. أم نزار قبانى الذى جاءه فى الغربة هاتف من دمشق يقول أمك ماتت، فلم يستوعب الكلمات فى البداية.. «لم أستوعب كيف يمكن أن يموت السمك كله فى وقت واحد».. الأم التى تركت بصمة أمومتها على جسده.. ندبة الحبل السُرى الذى أمده بالحياة جنينًا داخل رحمها، ووصلا روحيًا يصاحبه فى معترك الحياة، ليطوف ويشوف ويحب ويشقى ويُنفى، ويأتى عليه يوم ليكتب فى بيئة لا تتعاطى حروف الكتابة.. فهناك سماء من الحجر لا يُكتب عليها، وهناك سماء من القصدير لا يُكتب عليها.. وهناك سماء من المسامير والخوازيق والأسلاك الشائكة لا يُكتب عليها.. وهناك سماء من الحقد والملح والحموضة لا يُكتب عليها.. وهناك سماء من النيران تغتال المدن التى تحمل بيدها قلمًا وورقة وتذهب إلى المدرسة..
«يعرفونها فى دمشق باسم «أم المعتز».. وبالرغم من أن اسمها غير مذكور فى الدليل السياحى فهى جزء من الفولكلور الشامى.. وأهميتها التاريخية عندى لا تقل عن أهمية «قصر العظم» و«قبر صلاح الدين» و«مئذنة العروس» ومزار «محيى الدين بن عربى».. وعندما تصل إلى دمشق، فلا ضرورة أن تسأل شرطى السير عن بيتها.. لأن كل الياسمين الدمشقى يهرْهر فوق شرفتها، وكل الفلّ البلدى يتربى فى الدلال بين يديها.. وكل القطط ذات الأصل الشيرازى.. تأكل.. وتشرب.. وتدعو ضيوفها.. وتعقد اجتماعاتها.. فى بيت أمى.. ونسيت أن أقول لكم، إن بيت أمى كان معقلا للحركة الوطنية فى الشام عام 1935. وفى باحة دارنا الفسيحة كان يلتقى قادة الحركة الوطنية السورية بالجماهير، ومنها كانت تنطلق المسيرات والتظاهرات ضد الانتداب الفرنسى.
وبعد كل اجتماع شعبى، كانت أمى تحصى عدد ضحاياها من أصص الزرع التى تحطمت.. والشتول النادرة التى انقصفت.. وأعواد الزنبق التى انكسرت.. وعندما كانت تذهب إلى أبى شاكية له خسارتها الفادحة، كان يقول لها رحمه الله وهو يبتسم: «سجلى أزهارك فى قائمة شهداء الوطن.. وعوضك على الله» وتخجل أمى من سخرية أبى المبطنة، ولكنها فى نفس الوقت تشعر بهزّة عنفوان، لأن بيتها صار بيت الوطنية.. ولأن أزهارها ماتت من أجل الحرية.
أمى.. لا تتعاطى العلاقات العامة، وليس لها صورة واحدة فى أرشيف الصحافة. لا تذهب إلى الكوكتيلات وهى تلفُّ ابتسامتها بورقة سولوفان.. لا تقطع كعكة عيد ميلادها تحت أضواء الكاميرات.. فأمىّ «دقة قديمة».. ولا تفهم كيف يكون للمرأة حب أول.. وثانٍ وثالث... أمى تؤمن برب واحد.. وحبيب واحد.. وحب واحد.. قهوة أمى مشهورة.. فهى تطحنها بمطحنتها النحاسية فنجانًا.. فنجانًا.. وتغليها على نار الفحم.. ونار الصبر.. وتعطّرها بحب الهالْ. وترش على وجه كل فنجان قطرتين من ماء الزهرْ.. لذلك تتحول شرفة منزلنا فى الصيف.. إلى محطة تستريح فيها العصافير.. وتشرب قهوتها الصباحية عندنا.. قبل أن تذهب إلى الشغل... وزارة زراعة كانت هذه المرأة.. ومن كثرة الأزهار والألوان، والروائح التى أحاطت بطفولتى كنت أتصور أن أمى.. هى موظفة فى قسم العطور بالجنّة..
بموت أمى.. يسقط آخر قميص صوف أغطى به جسدى. آخر قميص حنان. آخر مظلة مطر.. آخر جبل يأوينى من الطوفان.. وفى الشتاء القادم.. ستجدوننى أتجول فى الشوارع عاريًا.. أستجدى دعاء بالستر تسمعه السماء.. أمى متفشية فى لغتى.. كلما نسيتُ ورقة من أوراقى فى صحن الدار.. رشتها أمى بالماء مع بقية أحواض الزرع.. فتحولت الألف إلى «امرأة».. والباء إلى «بنفسجة» والدال إلى «دالية» والراء إلى «رمانة» والسين إلى «سوسنة» أو «سمكة» ولهذا يقولون عن قصائدى إنها «مكيفة الهواء».. ويشترونها من عند بائع الأزهار.. لا من المكتبة.
كلما سألوها عن شعرى، كانت تجيب: «ملائكة الأرض والسماء.. ترضى عليه».
طبعًا.. أمى ليست ناقدة شعر موضوعية.. ولكنها عاشقة.. ولا موضوعية فى العشق.
فيّا أمى. يا حبيبتى.. يا فائزة..
قولى للملائكة الذين كلفتهم بحراستى من بعد غياب وجه القمر ألا يتركوننى..
لأننى أخاف أن أنام وحدى..
الإسلاموفوبيا.. الكاتبة الزميلة سحر الجعارة تهيب بِنا بألا يأخذنا الحماس بلعن الإرهابى اليمينى المتطرف «برينتوت تارانت» على ما جنت يداه بقتل 50 بريئًا من المسلمين الرُكَّع السجود فى مسجد النور بنيوزيلندا بسلاح مكتوب عليه «أهلا بكم فى جهنم»، وبألا نردد كالببغاوات إدانة العالم لتلك الجريمة الشنعاء قبل الاستماع إلى السيناتور الاسترالى «فريزر أنينج» الذى أصدر بيانًا جاء فيه: «أعارض بشدة أى شكل من أشكال العنف داخل مجتمعنا وأدين بشدة تصرفات المسلح».. ومن بعد تفسيره للماء بالماء عاد يقول القول الهام الهمام الذى تؤجل الكاتبة إدانتنا للمجرم حتى ننصت إليه فيه «إن السبب الحقيقى لسفك الدماء فى شوارع نيوزيلندا اليوم هو برنامج الهجرة الذى سمح للمتعصبين المسلمين بالهجرة إلى نيوزيلندا فى المقام الأول، فلنكن واضحين، فربما كان المسلمون هم الضحايا اليوم، وعادة ما يكونون هم الجناة».. بالله عليكم ما الذى حواه هذا التصريح المغرض المعكوس الذى أرادت الكاتبة منا ألا ندخل فى معترك الإدانة العالمية للجريمة الشنعاء حتى ننصت إليه كى لا يأخذنا الحماس الأهوج، ويؤججنا الشطط المضلل فالأمر كما تشرحه فى سطورها الصادمة فى وقت لم تزل فيه دماء الضحايا الأبرياء لم تجف بعد ما هو إلا: «صراع حضارى، من شعوب ترفض أن تهاجر أنت إليها بزعم الاضطهاد الدينى أو السياسى، وتتمتع ببدل البطالة وحرية التظاهر ثم تقلب الطاولة عليهم وتضطهد سياساتهم وتطعن فى أديانهم.. شعوب تدفع من ضرائبها ثمن هروبك، وتوفر لك الملاذ الآمن للتخطيط للهجمات الإرهابية عليها المهاجرون المسلمون المسالمون الثلاثة آلاف الحاصلون على الجنسية النيوزيلندية كان منهم يا سيدتى الملكية أكثر من الملك جماعة يصلون الجمعة فى أمان الله تبعًا لديانتهم التى تنتمى إليها رئيسة شرطتهم المسلمة التى قامت بتحية الجموع قبل حديثها الرسمى بالسلام عليكم ورحمة الله، والذين قالت عنهم «جاسيندا أردين» رئيسة الوزراء من بعد الإنصات لآيات الذِّكر الحكيم فى البرلمان النيوزيلندى: «نحن واحد.. إنهم نحن» وحول الإرهابى الذى لم تلوث فمها بنطق اسمه: «إنه مجرم متطرف وعندما أتكلم عنه سيكون بلا اسم، وأناشد الجميع أن تذكروا أسماء الذين قضوا وليس اسم الرجل الدنس الذى قتلهم.. إن نيوزيلندا بمهاجريها من جميع الديانات بما فيهم المسلمون الذين لا تزيد نسبتهم على 1٪ من عدد السكان لم تعرف العنف على مدى تاريخها، والحوادث الوحيدة على أرضها لا تعدو اصطدام حيوان بعجلات سيارة مارقة».. لكن الأستاذة سحر عادت لتفهمنا فى نهاية الأمر والمقال: «بأن تلك الشعوب الحرة التى تأوينا وتدفع ضرائبها لأجل أمننا ترفض تغير نمط الحياة الذى اعتادته» وتأتى الخاتمة بالتحديد والتنبيه والتذكير بعدم ذكر عبارة «الإسلاموفوبيا» الدخيلة التى ترى فيها الإجحاف والتضليل، فما قام به السفاح تارنت ليس سوى دفاعا عن الحرية المقدسة عند الغرب والتى منحوها للمهاجرين العرب الأندال فتحولت لحزام ناسف يطوق عواصم (الغرب الكافر)».. وجملة النهاية «الغرب الكافر» تلك التى طرزت بها الكاتبة نهاية مقالها كما أعتقد كنوع من التفكه لما قد يقال على ألسنة الأندال.. وما من رد على الزميلة أبلغ من رد فعل الطفل النيوزيلندى الذى استنفره «لىّ الحقائق» على لسان السيناتور الذى استشهدت الكاتبة ببيانه فقام بقذفه بالبيض على أم رأسه وهو يغالط فوق المنصة إلى جانب تكذيب «أردين» زعيمة نيوزيلندا التى ارتدت السواد لمواساة الأسر المسلمة المكلومة فى بلادها للرئيس «دونالد ترامب» الذى قال بأن «الإرهاب اليمينى لا يتزايد».. فقد قالت له أمام أعضاء برلمانها: «لا.. لا.. الإرهاب اليمينى المتطرف يتزايد»، وأضافت: «إن الحاج محمد داود، 71 عاما، حارس مسجد النور قد خاطب الإرهابى وهو يفتح له الباب: (أهلا يا أخى ومرحبا).. وكانت تلك كلماته الأخيرة، فلم يخطر على باله بالطبع كم الكراهية التى كانت تنتظره وراء الباب، لكن ترحيبه يخبرنا بالكثير.. يخبرنا بأنه كان يؤمن بالإسلام كعقيدة ترحب بالجميع وتتسم بالانفتاح والاهتمام بالآخر».
آه.. لو تتحررين يومًا.. من غريزة الأرانب.. وتعرفين.. أننى لست صيادك لكننى حبيبك»...(نزار)
فى عالم الخبر الصحفى يكتب رئيس تحرير الحياة غسان شربل: «التجربة أفضل الأساتذة بهذا تنصح زميلك: لا تضع رقم القتلى فى العنوان. سيسقط آخرون بعد ذهاب الصفحة الأولى إلى المطابع. سيرتفع العدد. سيلفظ بعض الجرحى أنفاسهم. طواحين القتل لا يراودها النعاس. ستموت منازل أخرى وستتبخر عائلات جديدة.. من يقتل فى النهار يضاعف الليل شهيته. لا يتقيد المرتكب بالدوام الرسمى. إنه متطوع. صاحب رسالة. تغريه الضربات القاضية، والأرقام القياسية. ثم إن الليل أفضل. أكثر رقة وحنوًا. يعفى القتيل من رؤية وجه القاتل.. وإذا كان لابد من الإشارة استخدم عبارة عشرات القتلى. إنها مطاطة وتتسع للإنجازات اللاحقة. ولن يخيبك المرتكب. لصناعة الصفحة الأولى أصول وقواعد. تتفرد بالصدارة الوليمة الأكثر دموية. لا يجوز إعطاء أعلى الصفحة لقتيل واحد إلا إذا كان اغتيالا مدويًا يعد بجثث ستأتى. للمسألة ترتيبات وأوليات. الوليمة الأقل تنتقل إلى الصف الثانى. لكن المسألة ليست جامدة أو متحجرة. غدًا إذا أوردت الأنباء أن البلد الذى كان مقيمًا فى الصف الثانى شهد مجزرة مروعة سننقله إلى الصف الأول، ويحدث أحيانًا أن تحصل منافسة شديدة على الموقع الأول بين دولتين شقيقتين.. يجب أن تكون المقتلة جزءا من حرب أهلية مفتوحة أو مقتربة، وباب المفاجآت يبقى مفتوحًا. أحيانًا تصل الجثث فجأة بعد رسم الصفحة الأولى، ولابد هنا من البراعة والابتكار للعثور على مكان للوافدين الجدد.. إنها أيام القتل.. الصور تأتى وإن تأخرت أحيانًا. حريق هائل، بيوت محترقة، وجبة من الجثث على ضفة نهر أو تحت ركام مبنى. بلدة تلتف حول الجنازات وتلوح بالثأر، وتقضى الأصول أن لا تفجع القارئ بصور الأجزاء البشرية، تكفى صور الأمهات النادبات وأحيانًا لدواع أمنية لابد من الجثث.. الصفحة الأولى تختصر حال الأمة.. أشعر أحيانًا أن جثث النهار تتجمع فى مكتبى. أسمع بكاء القتلى وأشم رائحة غضبهم، ومصانع الأرامل والثكالى والأيتام تدور بكامل طاقاتها.. أشعر بأن القتلى يعاتبون الصحيفة لأنها لا تنتظر الجثث التى يحملها الليل.. الصراخ لا يُجدى. الحبر لا يمنع الدم.. موسم القتل الطويل. صحف متخمة بالعظام. لا مكان بين مدافن الصفحة الأولى لخبر لا يقطر دمًا. ما أصعب أن تخفف عن القارئ أهوال الوجبة المسمومة صورة نجمة فائزة بالأوسكار، عالم كافأته جائزة نوبل، وموضوع عن البيئة، تحقيق عن الصحة.. تضيع الأخبار الطبيعية فى حقول الموت.. لا مكان لخبر مُفرح فى المشرحة.. تستقبل النعوش وتوزّعها على مقابر الصفحة الأولى. تتوهم أنك صحفى ثم تكتشف أنك حفار قبور!!
«لو كان للموت طفل لأدرك ما هو موت البنين .. ولو كان للموت عقل.. سألناه كيف يفسّر موت البلابل والياسمين.. ولو كان للموت قلب.. تردد فى ذبح أولادنا الطيبين.. فيا قرّة العين.. كيف وجدتَ الحياة هناك؟ فهل ستفكر فينا قليلا؟ وترجع فى آخر الصيف حتى نراك.. وليدى.. إنى جبان أمام رثائك.. فارحم أباك»...(نزار)
الحضور بالملابس الرسمية: عملنا منه بطلا وصاحب نظرية ومفكر بآراء مختلفة والاختلاف لا يفسد للود قضية.. وظن فى نفسه علياء أصحاب النظريات، بل واستقطب بعض مِمن على شاكلته يدافعون عن حرية الرأى وسطوة العلم، بل وكتبت فيه إحداهن شعرًا تم نشره تضعه بين أبياته فى مصاف الأنبياء.. وكان أن وقع فى شر أقواله ليمضى مدة السجن القانونية لكل متطاول، وخرج ليقدم برنامجه الجديد الذى يشرح فيه بالصورة والسبورة والأرقام والخرائط والسجلات البيانية، ويجيب من تانى سيرة الأئمة وبالذات البخارى والسلف وسِن زواج السيدة عائشة رضى الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمضى فى سكة إرسالية مهاجمى خماسية التصيد الأعمى: ختان الإناث وبول الإبل والحجر الأسود وماء زمزم وجناح الذبابة، الداعمين للإرث التونسى وزواج المسلمة لمن ليس على دينها.. ويحيلنا الخريج الذى أفتى يومًا باكتفاء المسلم بالقيام والركوع والسجود فى الصلاة دونما فاتحة ولا تشهد على ما قاله فى الحلقة قبل السابقة بثقة وكأننا كنا المتابعين لهرائه وما ستجود به قريحته النيّرة فى الحلقات القادمة بثقة يحسد عليها بأننا سنظل متخشبين أمام الشاشة حتى تشرق شمس اليوم الذى سيهل علينا فيه منجديد ليُكمل هراءه ويقوم يتمشى بخيلاء بملابسه السوداء المحبوكة كبطل درامى داخل ديكور أسود رومانسى لزوم إبراز هيئة البعيد فى حركة اليدين بالطباشيرة والوجه الخشبى بالتكشيرة، ويتأرجح الشارح الطارح الفاتح على طرف ذراع المقعد الفوتى الأنيق لزوم الواقعية الحميمية بقصة شعره الحديثة التى يحلق فيها السوالف ويترك الوسط عاليًا منفوشًا، وكأن الأفكار تتصاعد تتدافع ترنو لتهويمات الأعالى فتزيدها رفعة واستنهاضًا واستنفارًا وانفجارًا كتدافعها على لسان بلا بيان يحيلك لما قاله زمان حيث لن تستطيع ملاحقة شريط كلماته المتسارعة المبتورة إلا إذا ما سجلت له ما قال فى الحلقات السابقة واللاحقة وأدرت التسجيل ببطء مثل الصور ال SLOW MOTION التى تُظهر أطوار الجنين من نطفة لعلقة لمخلوق يدب بقدمين يظن أنه يقيم الفكر ويقعده، فننكسه فى برنامج هذيانى أرضى مفتوح على الريّاح البحيرى لا يتابعه أحد.. وهذه خاتمة المدعين!!
«كل يوم تنتحر مدينة عربية على طريقتها الخاصة: واحدة تموت بالسم.. وثانية تموت بالقهر.. وثالثة تموت بالكآبة.. ورابعة تموت بالحبوب المنوّمة.. وخامسة وعاشرة تموت من فرط غباء أبنائها.. وابتداء من غرناطة إلى يومنا هذا، ليس هناك مدينة عربية واحدة ماتت ميتة ربّها.. وإنما مدن وجدت مقتولة فى ظروف غامضة.. ولم تتمكن النيابة العامة من معرفة قاتلها، فسجلت الجريمة ضد مجهول»!...(نزار)
«مخ العالم».. اللقب الذى أطلق على الإمام أبو حنيفة النعمان من أنشأ مدرسة الرأى فى الإسلام وقاوم طغيان الأمير والسجان والتقاليد والجمود والتعصب وجلود التماسيح وقلوبًا قدّت من حجر صوان، وكان إذا ما دخلت عليه امرأة تستفتيه قام إليها تاركًا مجلسه ليجنبها أحداق الرجال، وقد نبع هذا التقدير والتوقير لمنزلة المرأة من حبه الشديد لأمه وحرصه الدائم على إرضائها، وفهمه العميق للمساواة فى الإسلام فى عصر بدأت فيه المرأة تتحول إلى سقط المتاع، لتصل اجتهاداته الذكية لفتواه فى العصر الأموى بأن الإسلام يُبيح للمرأة حق تولى جميع الوظائف العامة بلا استثناء.. حتى القضاء.. وأفتى بأن للبالغة أن تزوّج نفسها وهى حرة فى اختيار زوجها لأن إساءة الفتاة البالغة فى اختيار زوجها أخف ضررًا من قهرها على زواج من لا تريده.. ولقد كان فى حرصه على إرضاء من أنجبته مضربًا للمثل، ومن أمثلة ذلك حملها فوق الدابة ليسير على قدميه أميالا إلى جوارها لرغبتها فى الصلاة خلف أحد الفقهاء الذى كان يرى فى نفسه أن أبا حنيفة ابنها أفضل منه بالكثير، ويظل الابن البار لا يرد لأمه طلبًا ولا يؤخّر لها رغبة حتى ولو كان الأمر مجحفًا به مثلما أمرته أن يتفرغ للتجارة وينصرف عن دراسة الفقه الذى استولى على لبِّه قائلة له: ما خير فى علم يصيبك بهذا الضياع؟! فرأى أبوحنيفة أن يشرك معه تاجرًا آخر كى يحقق رغبة أمه وفى الوقت نفسه يكون لديه متسع لطلب العلم.. ولكم تحمل فى السجن من سياط التعذيب حتى ورم رأسه، ليسأله جار المحبس عما يبكيه الآن بالذات وهو الفقيه القوى الصلب؟! فأجابه من خلال سطور دموعه: «ما أوجعتنى السياط بل تذكرت أحزان أمى فبكيت تجاوبًا لدموعها الغالية».. وقسمًا عظمًا لو أُخذ بوصايا الإمام أبى حنيفة المولود فى سنة 80 من الهجرة النبوية لما ساء الأدب وفسد الولد وسادت الضغينة واستشرى الفساد وطفح الإرهاب على خرائط البلاد.. لقد أوصى الإمام تلميذه الذى سأل كيف التعامل مع الناس قبل زمن أسلحة التواصل الاجتماعى فأجابه: «أنزل كل رجل منزلته، وأكرم أهل الشرف، وعظّم أهل العلم، ووقّر الشيوخ، ولاطف الأحداث، واصحب الأخيار، ولا تتهاون لسلطان، ولا تحقرن أحدًا، ولا تخرجن سرك لأحد، وإيّاك والانبساط إلى السفهاء، وعليك بالمداراة والصبر، واستجدَّ ثيابك، واستخدم الطّيِب، وابذل طعامك فما ساد بخيل، ومتى عرفت بفساد بادر إلى صلاح ومتى عرفت بصلاح فازدد فيه رغبة واعتناء، واعمل فى زيارة من يزورك ومن لا يزورك، والإحسان إلى من يُحسن إليك أو يسىء، وتغافل عما لا يعنيك، واترك كل ما يؤذيك، وبادر فى إقامة الحقوق، ومن مرض من إخوانك فعده بنفسك، ومن غاب منهم تفقد أحواله، ومن قعد منهم عنك فلا تقعد أنت عنه، وأفش السلام ولو على القوم اللئام، ومتى جمع بينك وبين غيرك مجلس وجرت المسائل، وخاضوا فيها بخلاف ما عندك، لا تبدِ لهم خلافا، فإذا سئلت عنها أخبرت بما يعرفه القوم، ثم تقول: وفيها قول آخر، وهو كذا، والحجة له كذا، فإن سمعوه منك، عرفوا مقدار القول ومقدارك، ولا تبد لأحد منهم ضيق صدر أو ضجرًا، وكن كواحد منهم، ولا تكلف الناس ما لا يطيقونه، وقدم إليهم حُسن النية، واطرح الكِبْر جانبًا، وإياك والغدر وإن غدروا بك، وأدِّ الأمانة وإن خانوك، وتمسك بالوفاء واعتصم بالتقوى، وعاشر أهل الأديان جميعًا وأحسِّن معاشرتهم، ولا تجزم ببطلان قول مخالف، بل ترجح قول نفسك قائلا: «فيه صواب يحتمل الخطأ»، وتقول فى قول مخالفك: «فيه خطأ يحتمل الصواب».. وقيل له أبا حنيفة هذا الذى نفتى به هو الحق الذى لا شك فيه، فقال «والله لا أدرى لعله الباطل الذى لا شك فيه».. وقال للبعض: «لا تسألنى عن أمر دينى وأنا ماشى، أو أحدث الناس، أو نائم، أو متكئ، فإن هذه الأماكن لا يجتمع فيها عقل الرجال!».
«عندما يولد فى الشرق القمرْ
فالسطوح البيض تغفو/ تحت أكداس الزَهَرْ
يترك الناسُ الحوانيت، ويمضون زُمَرْ
لملاقاة القَمَرْ/ ما الذى يفعله فينا القمرْ؟
ما الذى عند السماء؟/ لكسالى ضعفاءْ
يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمرْ»...(نزار)
أوراق مصرية.. جرى فى عام 1907 أول تعداد للسكان فى مصر فى القرن العشرين وسجل 11 مليونا ومائتى ألف نسمة، وفى العام نفسه بدأ الإنتاج السينمائى المصرى، كما بدأت حياة حزبية صاخبة، فقد تأسست خمسة أحزاب دفعة واحدة: الحزب الوطنى الحر «حزب الأحرار» الموالى للاحتلال، والحزب الجمهورى المصرى، وحزب الأمة بزعامة أحمد لطفى السيد، وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية بزعامة الشيخ على يوسف، والحزب الوطنى بزعامة مصطفى كامل الذى مات بعدها بمائة يوم ورثاه صديقه أحمد شوقى، وبرزت زعامات عدة ذات توجهات شتى، دينية وعلمانية، إصلاحية وثورية، يسارية ويمينية، وأفرزت أسماء شديدة الأهمية والتأثير، من بينها محمد فريد وأحمد لطفى السيد، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ومحمود مختار.. وسجل عام 1911 مولد شخصيات اشتهرت فيما بعد مثل الأديب نجيب محفوظ، والرسام صلاح طاهر، والنجم أنور وجدى، والشيخ محمد متولى الشعراوى، والدكتورة سهير القلماوى، والقانونى فتحى رضوان.. وكان يحكم مصر الخديو عباس حلمى الثانى، وهو ثالث وآخر خديو فى أسرة محمد على بعد إسماعيل وتوفيق، لأنه بعدها أصبح من يحكم مصر سلطانًا ثم ملكًا، وعباس حكم البلاد اعتبارا من عام 1892 وكان على صدام دائم مع الإنجليز، حتى استغلوا فرصة نشوب الحرب العالمية الأولى فى عام 1914 وعزلوه ليموت بعدها بثلاثين عامًا، لكنه ظل لسنوات طويلة رمزًا للتظاهرات ضد الإنجليز، إذ كان الوطنيون يهتفون «الله حىّ عباس جاىّ»، وكانت الصحف المعروفة فى عام 1911 والصادرة قبلها بسنوات : الأهرام والمقطم والمؤيد ولسان العرب واللواء والجريدة، وكانت النقود الورقية بضمان البنك الأهلى المصرى، وكان عباس قد منح امتياز إنشاء هذا البنك إلى رفائيل سوارس، وأعطاه الحق فى إصدار أوراق مالية للتداول يمكن صرفها بالذهب عند طلب حاملها، لطمأنة المصريين الذين لم يعتادوا على نقود ورقية.. ويسافر المثّال محمول مختار صاحب تمثال «نهضة مصر» إلى باريس ليستكمل دراساته ليعود للعمل فى التمثال الشهير بتبرعات المصريين لينتهى منه موازيًا لثورة 1919 ليقول عنه صاحبه: «لست صاحب التمثال بل الشعب هو صاحبه».
« إن كان يعجبك الكلام.. تكلمى.. أو كنت ترتاحين فى شتمى.. اشتُمى.. فالحب بالإكراه ليس هوايتى.. والعنف سيدتى يزيد تأزمى.. خليك عاقلة ولا تستقبلى مطر الربيع بوجهك المتجهم.. كونى كما كل النساء فإننى.. لا أعرف امرأة تعيش بلا فم..»...(نزار)
الصحافة محنتى.. قال عنها الناقد والكاتب الكبير رجاء النقاش: «علمتنى الصحافة التبسيط وسهولة التعبير ومحاولة الاقتراب من الناس حتى يمكن التأثير فيهم، وهذا فضل كبير، ولكنها التهمت وقتى، بل التهمت عمرى، فلم أعد أجد الفرصة التى كنت أتمناها وأحلم بها لإصدار كتبى ودراساتى الطويلة، لأن الصحافة للأسف لم تكن مجرد أداة للتعبير عندى، بل كانت مهنتى التى أكسب منها لقمة خبزى، والواقع أنها مهنة صعبة وأنا أسميها محنة، لأنها فى بلادنا لا تقوم على تقاليد راسخة مثلها مثل غيرها من المهن، فلا مكان للسن أو للخبرة، وليس هناك ما يفرض على هذه المهنة أن تحقق الراحة والوقت لمن بذلوا فيها جهدًا كبيرًا وأضاعوا عمرهم عليها. فأنت فى الجامعة مثلا إذا ما وصلت إلى منصب الأستاذ لا يستطيع أحد أن يعيدك فجأة إلى منصب المعيد، أو إلى مقعد التلاميذ، ولكننا فى الصحافة العربية لا نتهيّب من شىء.
فأنت تصل إلى منصب رئيس التحرير ثم تجد نفسك فجأة وقد عدت إلى مقعد صغار المحررين، فلا مكتب لك ولا مساعدين، بل إنك بعد الجهد المرير والعمر الطويل فى خدمة الصحافة قد تجد صعوبة فى نشر كلمتك والتعبير عن نفسك، بل قد تجد من تكون قد قمت بتعيينه يؤجل نشر مقالك لحين ميسرة..
إنها مهنة بلا عُرف ولا تقاليد ولا مبادئ ولا أخلاقيات، ومازالت مهنة الصحافة عندنا خالية من الوفاء لأهلها والحرص عليهم وتسهيل أمورهم، خاصة بعد أن يصيبهم التعب، وتمر عليهم السنوات بوطأتها الشديدة العنيفة حتى يصبحوا فى نظر بعضهم كخيول السباق التى شاخت.. وينبغى ضربها بالرصاص.. وصدقونى إذا قلت إننى أعمل فى الصحافة الآن بعد عشرات السنين كما كنت أعمل عندما بدأت حياتى الصحفية وأنا طالب فى الجامعة.. نفس الجهد.. نفس التعب.. نفس المعاناة.. ولم تحفظ لى هذه المهنة قيمة الجهد الكبير الذى بذلته بحيث أجد من حقى أن أعمل بهدوء وبكمية أقل ونوعية أرقى، وهذا ليس حالى وحدى، فهو حال الكثيرين غيرى، وقد أدى هذا كله إلى التقليل من قدرتى على العمل والتنظيم الصحيح لوقتى، وتقديم أفضل ما أستطيعه للناس، فأنا ألهث فى ساحة العمل الصحفى كما يجرى أى شاب صغير من أجل أن أعيش، وتلك محنة وليست مهنة كُتبت علينا».... ولم نعد لها يا رجاء طائعين بعدما جرى ما قد جرى للقلب وشرايينه، والعمود الفقرى وفقراته، والمفاصل وتوابعها، والضغط وأرجحته، والأفكار وهروبها، والقلم وشروده، والصحاب ورحيلهم، والنظر الغارق فى المياه البيضاء والزرقاء، والذبابة الطائرة التى شرحت للطبيب المداوى بأنها ساعة تروح وساعة تيجى، فنصحنى بالتغاضى، فقلت له: وهذا مذهبى!!
«كنت ساذجًا حين تصورت أننى أستطيع اغتيالك بالسفر.. فمتى؟.. متى أتخلص منك أيتها المسافرة فى سفرى.. والراحلة فى رحيلى»...(نزار)
ما لم ينشر لجبران خليل جبران: بعد سؤاله من يخبرنى ما إذا كان الحق فى القوة أو أن القوة فى الحق يسرد جبران ذكريات من زمن الطفولة: «أذكر أننى عندما كنت فى السادسة أجمع الحجارة الصغيرة، وأبنى منها بيوتًا صغيرة ذات قناطر وأبواب ونوافذ، ثم أقتلع النباتات الصغيرة الجميلة من حديقتنا وأغرسها صفوفًا حول تلك المنازل، وكنت أفعل ذلك بلذة ورغبة قلما شعرت بمثلهما منذ ذلك الزمن البعيد، ولكن فى المساء لم أكن أنتهى من عملى هذا وأعود إلى البيت لتناول العشاء حتى يجىء الصبيان ويهدموا ما بنيته ويقتلعوا ما غرسته.. وكنت أستيقظ فى الصباح وأذهب توًا لأفرح بما صنعته يدى بالأمس فلا أجد سوى الحجارة المبعثرة والأزهار الذابلة، فتظلم الدنيا فى عينى وتملأ الغصّات قلبى، فأركض إلى والدتى وأشكو لها أولئك الصبيان فتقول بابتسام: «لا بأس يا ولدى، اذهب وابن بيتًا أكبر وأجمل من الذى بنيته بالأمس، وعندما تنتهى سأحضر لأساعدك على جمع الأزهار وغرسها حوله».. وداومت بناء البيوت وغرس الحدائق الصغيرة والصبيان يهدمون ما أبنى ويقتلعون ما أغرس حتى ثارت روحى، فتمردت على أولئك المخربين الأشرار، وتمردت روحى على سماحة والدتى وصمتها، فقلت لنفسى: لن أبنى بيتًا آخر بل سوف أهدم كل ما يبنونه وأخرب كل ما يفعلونه، وهكذا فعلت، فلم يبنوا بيتًا إلا وهجمت مفترسًا وهدمت على مشهد منهم ما أقاموه، ولم أكن أكتفى بالهدم بل كنت ألتقط حجارة قصورهم وأرمى بها إلى أبعد ما يبلغ إليه عزم ساعدى.. والغريب أن عملى هذا قد جاء بالنتيجة المطلوبة فى نفوس الصبيان، فصار كل منهم يشعر بأن له عدوًا يثأر لنفسه ولا ينام على الظلم.. وأذكر قول أحدهم، وقد كان أحبهم عندى، بأنه أطل ذات صباح من نافذة بيته ونادانى قائلا: «إذا كنت لن تهدم ما أبنى فلن أهدم ما تبنى»، وهكذا تم الصلح بينى وبين رفاقى، فصرت أبنى البيوت والقصور والكنائس فى بعض الأحايين فتبقى على حالها حتى تهب الرياح وتهبط الأمطار وتهدمها إلى الحضيض..
والعجيب أننى لم أكن أشعر بألم أو بأسف عندما كانت الأعاصير تهدم مبانىّ وتبعثر حدائقى، بل وكنت أحيانًا أقف فى رواق منزلنا ناظرًا إلى أعمال العاصفة بشىء من الغبطة والسلام، فهل كنت أشعر يا ترى إذ ذاك أن كل ما يأتى من الأعالى على العين والرأس، وأما ما يجىء من البشر فلا؟! أو هى الكبرياء تجعلنا ألاّ نرضى إلا بالعاصفة معاديًا؟».. ويجد جبران ميزة اختص بها وحده يذكرها بقوله: «ليس لى فضيلة ولا حسنة فأنا كالناس كافة، وما يربطهم بالحياة يربطنى بها، وما يفصلهم عن ذاتهم يفصلنى عن ذاتى، ولكن لى ميزة خُصِصت بها وحدى دون الناس وهى أننى أتكلم بلسان الخرسان وأسمع بأذن الأصمّ وأنظر من وراء أجفان الأعمى فأرى الحياة فى كنف نور الشمس.. وعلاوة عن كل ذلك فأنا أبكى بالنيابة عن الذين وُلدوا بغير دموع وأضحك بالأصالة عن الذين لا يضحكون».
«ماذا أقول؟ فمى يفتش عن فمى، والمفردات حجارة وتراب.. أأحاسب امرأة على نسيانها، ومتى استقام مع النساء حساب؟!.. ماذا جرى لممالكى وبيارقى؟! أدعو ربابَ.. فلا تجيب رباب.. هل دولة الحب التى أسستها سقطت علىّ وسُدّت الأبواب.. من أين يأتى الشِعر؟ حين نهارنا كمساؤنا إرهاب!!»... (نزار)
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.