جميل أن تكون هناك صفحة فى جريدة كبيرة مخصصة لنشر القصة، فالقصة فن يستحق الوصف بأنه الفن الخالص أو «الفن المطلق» على حد تعبير أحد أهم نقادها «فرانك أوكونور»، فهذا الفن فى تطوره الحديث، مرتبط بتطور الصحافة، وقد كان نشره فى الصحف، منذ بداية القرن الفائت، يلاقى احتفاء ويرفع أرقام التوزيع، شأنه شأن نشر المثير من التحقيقات والحوادث. وكان يضمن لكُتَّابه البارزين عيشا لائقا وكفاية كريمة، وفائضا يسمح لهم أن يجوبوا مختلف أصقاع الأرض للحصول على قصص جديدة، أو حتى تغذية الصحافة بكتابات صحفية تعبق بروح القص الممتع، ونتذكر فى هذا نماذج «هيمنجواى» و»ترومان كابوت» و»سكوت فيتزجيرالد» فى الغرب، وفى الشرق»أنطون تشيخوف» العظيم. أما لدينا فقد تحقق ذلك نسبيا للعبقرى يوسف إدريس. الآن، وهنا، تغير الحال كثيرا، سواء فيما يخص الصحافة المطبوعة أو يخص القصة، ولأسباب حقيقية تتعلق بمستجدات تقنيات النشر والتلقِّى، وأخرى تصطنعها أساليب التسويق والترويج الاستهلاكية الهادفة للربح والمُكرِّسة للضجيج الإعلامى، والنتيجة حصار وانحسار لإبداع هذا الفن الرفيع من فنون السرد، وأخطر ما فى ذلك هو ترهل شروط الإجادة فى كتابة هذا الفن فائق الحساسية، وما تبعه من فوضى فى النشر تكاد لا تميز الغث من الثمين، فبات هذا الفن الرفيع البديع يُخنَق من داخله ومن خارجه، ويُشكِّل خسارة لعنصر نفيس من عناصر الإبداع الأدبى. مثل هذه الخواطر المقبضة، صارت تراودنى، ليس كأحد كتاب القصة، بل كقارئ مُحب لها وغيور عليها، وواعٍ بموقعها خطير الشأن فى شحذ الذائقة الجمالية، ومردود هذا الشحذ ضمن مُركَّب الفنون والآداب على ترقية السلوك البشرى، الذى يمعن فى الانحدار. وهنا، ساءلت نفسي: ماهو دورى بخصوص هذا الفن الذى أحبه؟ ودور محبيه الحقيقيين من مبدعيه وقرائه؟ ووجدت الإجابة تشير إلى الدرب الواجب سلوكه، ويتمثل فى إعادة التذكير بكل زاهر وباهر من كنوز هذا الفن، لضبط معايير كتابته، واستعادة شغف محبيه وتوسيع ساحة المتلقين. هذه الدعوة تتلخص فى أن ننشط لإعادة تقديم الرائع والمتقن من فن القصة العالمية والمصرية والعربية لنعيد تصحيح المعايير التى اختلت فى أزمنة الزحام والفوضى والتسويق والترويج المصطنعين، ثم نقدم ماهو مستقر فى وجداننا وذائقتنا كقراء لهذا الفن، وقد استقر اختيارى الأول على قصة « ضوء يشبه الماء» أو «الضوء كالماء» للكاتب العالمى جابرييل جارثيا ماركيز ( بترجمة الكبير المتواضع صالح علمانى) لأسباب أولها أن هذه القصة تفتح باب النقاش فى مفهومين مختلفين لكتابة القصة لدينا، طرحاهما كاتبانا الكبيران « نجيب محفوظ» و» يوسف إدريس»، وهما طرحان فارقان على دروب إبداع القصة، كما على تلقيها. ثم إن قصة ماركيز هذه، بها من دقائق فن السرد ما يطيح بمسلمات هشة عن افتراق الواقع والخيال، سادت وما بادت فى الأدب، بينما إبادتها حاسمة من خلال المعرفة العلمية التى ماعاد ممكنا فصلها عن الحدس الأدبى، وهذا مما عبر عنه سيد القصة فى التاريخ البشرى الحديث «أنطون بافلوفتش تشيخوف» الذى قال: «إننى أفضل ألا أكتب إذا كان ما أكتبه يتعارض مع الحقيقة العلمية». فى رأيى أن هذه القصة لماركيز هى «اختراع» إبداعى، وكأى اختراع ناجح تقودنا تطبيقاته إلى اكتشاف آفاق واقعية لم تكن بادية لنا، فتذهلنا جمالات طبقة ساحرة من الوجود كانت خافية عنا، وهو مما يضيء مفهوم «الواقعية السحرية»، هذه الموجة الرائعة من الإبداع الأدبى المنطلقة من أمريكا اللاتينية، والتى مثلت غزوا جماليا مضادا لسابق الغزو الغربى، كاشفة عن طيف من واقع الوجود لاتدركه إلا المخيلات الطليقة، والمدهش أن مشابهة الضوء بالماء ليست تخريفا خياليا أبدا، فهى قضية شغلت العلم طويلا بخصوص « طبيعة الضوء» الموجية، والتى لم ينفها نموذج أينشتين عن الضوء كجسيمات أو فتوتونات. وأُرجِّح أن ماركيز اختار فرضية موجية الضوء عن معرفة علمية، فقد كانت مكتبته أينما حل أو ارتحل تتصدرها مجموعة من الموسوعات المتخصصة لم يكن يبتعد عنها وهو يدقق أخيلة ووقائع مايكتب، لهذا أصدقه عندما قال إن كل ما أورده فى أعماله ويبدو خياليا، يستطيع أن يقيم الدليل على «واقعيته». هذه هى لعبة فن الواقعية السحرية: أن يمضى على طريق تفاصيل واقعية تماما، ثم يُفاجئنا بشعاعات من الدهشة تسحرنا، ففى هذه القصة ينقلنا من دقائق واقعية، تكاد تكون حقائق ذاتية تخص الكاتب، لأسرة صغيرة من أب وأم وطفلين فى مهجر، إلى انقلاب يبدو سحريا خياليا يسلك فيه الضوء سلوك الماء، فيحمل على موجه زورق الأولاد ويفيض من نوافذ البيت القديم بين الأشجار ليغمر الشوارع بسيله الذهبى. أما اللمحة البارعة فى سرد هذه القصة فتتمثل فى تأخيره لبدايتها الزمنية عندما سأله أحد الطفلين» لماذا يشتعل الضوء بمجرد الضغط على زر؟» فأجابه دون تمعن ليُسكِت إلحاح سؤاله: «الضوء كالماء تفتح الصنبور فيخرج «! ووضع هذه البداية كاستدراك قرب منتصف القصة ليضمن جذب القارئ نحو مفاجأة الضوء الذى يفيض من مصباح كسره الأولاد عمدا. ليس أخيرا، لقد استعملت كلمة «اختراع» وهى من تعبير عن إجابة سؤال وُجِّه إلى يوسف إدريس عن مفهومه فى كتابة القصة فقال «القصة اختراع»، بينما نجيب محفوظ قال إنه يكتبها من فتات ما يتبقى من صنع رواية. وبالطبع أتحيز لمفهوم يوسف إدريس، لأنه يجعل من القصة عملا فريدا يكتنز عالما مكتملا بحاله. ولعل هذا هو السبب فى قوة وفرادة القصة عند يوسف إدريس. أما مفهوم نجيب محفوظ، الذى أعتبره أحد حكماء البشرية العظام، وكتابها الكبار بلا شك، فهو يوضح السبب فى ذلك البون الشاسع بين منجزه الروائى ومُنجَزه القصصى. وهو ما صححه متأخرا عندما صارت القصة الموجزة، هى كل مادة فنه، لا فُتات من بقايا عمل روائى، لهذا سطعت « أصداء السيرة الذاتية» ومعظم « أحلام فترة النقاهة» نصوصاً قصصية بالغة الإيجاز، لكنها اختراعات كبرى، تخترق حُجُب الواقع وتعبر الأزمنة. يبقى أن أقول، إن ماركيز هو أحد الروائيين العظام القلائل الذين كانوا عظماء بالقدر نفسه فى كتابة القصة. لهذا لا يكفى استحقاقه لصفة الكاتب الأهم فى الربع الأخير من القرن العشرين، فهو لايزال كذلك، فى هذا الربع الأول من قرننا الواحد والعشرين، العجيب الغريب! لمزيد من مقالات محمد المخزنجى