أحد أبرز مظاهر الفجوة المعرفية الكبرى بين الثقافة المصرية والعربية، وبين الثقافات الإنسانية الأخرى تكمن فى حالة الفوضى فى الاصطلاحات، والاستخدامات الإنشائية لبعض المفاهيم، والنظريات، والمقولات والاصطلاحات فى اللغة الكتابية المستخدمة فى إنتاج النصوص الكتابية، والبحثية، وفى اللغة الإعلامية التلفازية والمسموعة والمقروءة، على نحو يشير إلى عدم دقة التكوين ونقص المعرفة الذى يصل فى بعض الحالات إلى مستويات الجهالة. بعض الاستخدامات اللغوية للمصطلحات تبدو كجزء من التجميل اللغوى، أو المجازات المفارقة للمعانى، وهذا يعود أيضا إلى سوء الترجمات عن اللغات الأجنبية الأساسية. لا شك أن هذا الدور الذى لعبه بعض المترجمين كان من الأهمية بمكان، وأسهم فى تحفيز العقل المصرى، وتنشيط بعض أوردة الثقافة المصرية، إلا أن غالب هذه الترجمات اعتمد أساسًا على الاختيارات الذاتية للمترجمين، وعلى تصرفهم فى عملية التعريب، ومن ثم لم تكن هناك رؤية متكاملة عن الاحتياجات الموضوعية للعقل والفكر المصرى من المعارف الأوروبية والغربية المطلوب استعارة أفكارها والتعرف عليها، ثم التعامل النقدى مع مقولاتها وبنياتها الأساسية. من ناحية ثانية: كانت اللغة العربية وقاموسها اللغوى يتسم بالجمود على غنى مفرداته، وذلك لأن حركة النمو فى المعجم اللغوى لأى نظام لغوى وثقافى يعتمد على حالة التطور الاقتصادى والاجتماعى والعلمى والتقنى والثقافى لمجتمع أو مجتمعات هذا النظام اللغوى، الذى يرفده بالمصطلحات والمفردات الجديدة الناتجة عن حركة تطوره، ودينامياته فى كل المجالات. من هنا واجه مترجمو هذه المرحلة التاريخية المهمة عديد الصعوبات فى إيجاد المفردات العربية الملائمة والدقيقة لترجمة بعض المفردات والمصطلحات الواردة فى متون النصوص التى قاموا بنقلها وتعريبها عن الفرنسية أو الانجليزية، وذلك على أهمية الإنجاز الثقافى الذى قاموا به فى حياتنا الثقافية والسياسية. أيا ما كان الأمر لم تكن هناك سياسة للترجمة رسمية وراء عديد الاختيارات للمؤلفات الأوروبية والغربية، وذلك على خلاف الترجمات الرسمية للمعاهدات والاتفاقيات الدولية التى كانت الدولة المصرية طرفا فيها. لا شك أن تطور الترجمات أدى إلى إنشاء وتكوين قواميس للترجمة عن الانجليزية والفرنسية قام بها أفراد من الشوام المتمصرين، أو من بعض المصريين، وهو جهد لغوى بالغ الأهمية والقيمة فى الثقافية المصرية والعربية، وثمة جهود أخرى قام بها أفراد أو مجموعات من المثقفين والمترجمين للاضطلاع بهذه المهمة الجليلة رفيعة الشأن فى ظل النظام شبه الليبرالى الذى يعتمد على السوق الثقافىة شبه المفتوحة، وعلى حرية العرض والطلب على السلع الثقافية والترجمات، ومن ثم أسهمت الترجمة فى تطور نظم الأفكار وفى إغناء القاموس العربى، واللغة الإصطلاحية فى الكتابة السياسية والقانونية، والنقدية فى الأدب، وفى اللغة الفلسفية الحديثة والمعاصرة، فى ظل غياب لبعض المراجع الأساسية لأمهات الكتب، واستبدال بعضها بالكتب الشارحة لها، أو الكتابات المؤلفة للتدريس أو القراءة والتى تعتمد على ترجمة وتبسيط هذه النظريات والأفكار والتصرف فى ترجمة المصطلحات، وبعض هذه الكتب لعب دورا مهما فى العملية التعليمية أو فى نشر الثقافة العامة، وبعضها الآخر لم يكن دقيقًا واتسم بالابتسار والضعف والركاكة. ومع نشأة المركز القومى للترجمة، ظهرت فرصة مهمة للنهوض بالترجمة إلى اللغة العربية، وفى تحريك الركود فى الفكر المصرى، ومحاولة تجسير الفجوة المعرفية بيننا وبين العالم، خاصة فى ظل عودة الاهتمام باللغات الأجنبية من بعض شرائح الفئات الوسطى - الوسطى، وظهور بعض المترجمين البارزين من أمثال أحمد مستجير وطلعت الشايب، وبشير السباعى، وأحمد حسان وآخرين من مجايليهم ومن أجيال تالية كأحمد الشافعى وأحمد عبد اللطيف لا شك أن هذا المشروع يتسم دوره بالأهمية فى رفد الأوردة الثقافية للعقل المصرى بالجديد من المؤلفات فى تخصصات شتى، لاسيما فى مرحلته التأسيسية على أيدى الدكتور جابر عصفور الناقد الكبير، إلا أن الطفرة الأولى التى لا تزال تؤتى ثمارها تحتاج إلى وقفة للمراجعة، وإعادة النظر فى بحث وتقييم أداء المشروع كله فى إطار المشروعات العربية الأخرى، ومحاولة التنسيق فيما بين هذه المشروعات لعدم التكرار والتشتت، وضرورة التكامل أو التنسيق فيما بين الجهات العربية المهتمة بالترجمة إلى اللغة العربية. من ناحية ثانية: ضرورة دراسة مكونات الفجوة المعرفية ومعالمها فى العلوم الاجتماعية والإبداعية، وفى العلوم الطبيعية، وما هى المؤلفات التأسيسية التى لم تترجم، أو تلك التى ترجمت على نحو غير دقيق ويجب إعادة ترجمتها، ووضع سياسة للترجمة تعتمد على سد النقص فى المعرفة الحداثية وما بعُد بعدها، ومتابعة التطورات الجديدة فى مجال العلوم الرقمية والذكاء الصناعى، وإبداعات الأجيال الجديدة من الأدباء والقصاصين والروائيين والمسرحيين والشعراء فى العالم. الترجمة لابد أن تعتمد على فلسفة ورؤية وسياسة، لا على الانتقائية، أو على ما يجود به بعض المترجمين واختياراتهم وأهوائهم وأذواقهم. من ناحية أخرى تحتاج إلى دعم مالى كبير من الدولة، وفتح الباب لتمويل بعض رجال الأعمال لترجمات لبعض أمهات الكتب الجديدة. الترجمة وسيلتنا للهاث وراء عالم يتقدم بعيداً عنا! لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح