وردت إلينا هذه الرسالة من قلم العلام العلامة والأديب الفهامة الشيخ محمد عبده احد المجاورين بالأزهر فادرجناها بحروفها: الي حضرة الهمام الكامل سليم افندي محرر جريدة الاهرام. انه لما نظر كل قاص ودان واشتهر بين بني نوع الانسان ان مملكة مصر كانت في سالف الزمان مملكة من اشهر الممالك وكعبة يؤمها كل سالك وماسح, اذ كانت قد اختصت بتربية العلوم وبث المعارف المتعلقة بالخصوص والعموم, وانفردت بالبراعة في الصنائع والابتكار في انواع البدائع, فكان ابناء العالم اذ ذاك ينتدون نداها ويستجدون جداها, يستمطرون من الغيث قطرا ويستمدون من المحيط نهرا, فكان التمدن فيها كهلا حين كان عند غيرها طفلا. ولا زالت كذلك حتي زها فيها التمدن واعجب اذ رأي الطالبين, تنسل اليه من كل حدب, وان ملوك الارض خدام عتبته, وتيجان الكيانين تحت قبضته, فاستكبر واعتلا, ولكؤوس الراحة اجتلا, فاقصته إلي ممالك الغرب يندوه حرارة الشغب واللغب ويتربي بذلك ويتأدب, فبدا بتلك الممالك غريبا ونادي معلما ووجد مجيبا, وتناوشته ايدي الجاحدين ولفحته أقوال المنكرين, ولا يزال يحتمل انواع المتاعب ويقاسي مستعصيات المصاعب الي ان بلغ بها اشده وملك رشده, وسار فيها شرقا وغربا وخامر الباب القوم حبا فعم انتشاره وبدت آثاره وتلألأت أنواره, وإذ تحلي بحلي الجمال وتتوج بتاج الكمال وقضي مدة السياحة وباء بغاية الراحة, استدار الزمان كهيئته ورجع الأمر الي بدايته وافل التمدن الي مسقط راسه ومقر تربيته فورد ديار مصر ورود الأهل وتمكن بها تمكن الاصلي فاستقبلهم الديار بغاية المسرة, واكرمت مثواه وأعظما أمره, واستردت ما كانت فقدت وادنت ما كانت أنأت وأحلتها محل القرب وانزلته سوداء اللب, فقام يؤدي حق خدمتها, ويؤدي شكر كرامتها, فنظر الي ما كان ابداه في تلك الأزمان من شواهق البنيان التي كم بلغت الأسباب وحيرت الألباب وانبات بما فيها عن براعة بانيها, ونطقت بفيها ان آيات الكمال فيها, فلما اعجب بالمثال حداه حادي الكمال لان ينسج علي هذا المنوال فانشأ لنا جريدة الاهرام المؤسسة علي احكم قواعد الأحكام الكافلة بارشاد المسترشدين وتنبيه الغافلين بما فيها من المباني والمعاني الدقيقة والأفكار العالية المؤيدة بالبراهين الشافية القائمة بنشر العلوم بين العموم. فيا لها من جريدة اسست قواعدها في القلوب وامتدت مبانيها لكشف الغيوب تنادي بمقالها وحالها حي علي الفلاح, وهلكوا الي موارد النجاح. لا تقفوا عند صورة المبني, ولكن تجاوزوا عنه الي المعني, تلك اهرام أشباح وهذه غذاء ارواح, تلك ظاهر صور وهذه دقائق عبر, تلك مساكن أموات وهذه لسان سر السماوات. نعم اين ذلك الزمان من هذا الان الذي قد سطعت فيه شموس العرفان ونشا فيه بنو الانسان نشأة اخري وتقلبوا في فنون الحقائق بطنا وظهرا فحقيق ان تكون أيامنا غير ايامهم واهرامنا غير اهرامهم. وأين الذي تفنيه الرياح والأمطار من الذي لا توهنه توالي المدد والاعصار.. فان مقره العقول العاليات والنفوس الزاكيات التي لا يتناولها الفنا ولا يبددها العنا فبخ بخ بمنشيها وطوبي لقاريها. فمن الواجب علي ذوي الألباب ان يجتنوا جناها وان يستطلعوا سر معناها فيبؤوا بأنوار الحكمة ويتقلبوا بفضل من الله ونعمة فان ليس شيء لدي العاقل أبهي من حقيقة يكشفها ولا الذ من حكمة يصادفها هذا ايجاز في مزاياها باسم الله مرساها ومجراها الامام محمد عبده