هذا الشهر تمر الذكرى المئوية للثورة المصرية الكبرى التى حملت اسم العام الذى تفجرت فيه (عام 1919) ونحسب أنه لابد من مراجعة حصادها والدروس المستفادة منها، لقد كانت ثورة شعب عظيم ضد الاحتلال البريطانى الجاثم على صدره منذ عام 1882، وضد استبداد حكامه وانفرادهم بالسلطة دون اعتبار للشعب، ولذا كان شعاريها المعروفين: «الاستقلال والدستور» فجاءت غضبة الشعب الأعزل إلا من إرادته، وتضحياته فى مواجهة جيش أعتى امبراطورية امبريالية آنذاك الذى واجه بصدور شبابه وشيوخه، رجاله ونسائه فى الريف والحضر، وبمسلميه وأقباطه فى طول مصر وعرضها، غضبة قومية عامة فى مواجهة الاستغلال والإساءة إلى كرامته، وعزته ومن المهم أن نؤكد بهذه المناسبة أن الثورة المصرية التى تفجرت تاريخيا منذ نوفمبر 1918، واستمرت أحداثها ووقائعها لنحو ثلاث سنوات، أسبابها بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر بعد نحو عقد من انكسار الثورة العرابية، عندما برز جيل جديد من شباب مصر المثقف وتولى أمر البلاد خديو جديد (عباس حلمى الثانى) كان طموحاً ليكون حاكما حقيقيا وليس أداة كوالده فى يد الإنجليز،، هذه التغيرات ولدت موجة جديدة من موجات الحركة الوطنية، بعثت الروح الوطنية، وشرعت تقاوم الاحتلال البريطانى وسياساته، بالكلمة والمحاضرة والصحافة، والدعوة إلى المغاضبة، والمقاطعة، وتشعل المظاهرات وتؤلف الأحزاب السياسية التى تطالب الاحتلال وسلطاته بالجلاء وتطالب الخديو بالدستور،،تقاوم علنا بهذه الأساليب ويقاوم بعض عناصرها سراً من خلال بعض التنظيمات والجمعيات السرية التى كانت تغتال وتحاول اغتيال بعض رجال الاحتلال والمتعاونين معهم من المصريين. ........................................... وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى (1914 1918) فرضت بريطانيا حمايتها على مصر، لتغير من اسم «الاحتلال» إلى الحماية، لكن سلطتها ظلت مهيمنة على سائر الأوضاع، منذ أرادت أن تضمها إلى محمياتها، لتقطع صلتها تماما بالدولة العثمانية ولتستخدمها كمسرح لعملياتها العسكرية فى الشرق، ويقوة واقتدار عزلت الخديوى عباس، وعينت عمه حسين كامل سلطانا على مصر، وفرضت الأحكام العرفية على سائر البلاد، وأغلقت الصحف ولاحقت الزعماء السياسيين وطاردتهم حتى ضعف الحزب الوطنى الذى كان يقود الحركة الوطنية آنذاك، وسخرت إمكانات مصر الاقتصادية والاجتماعية لخدمة المجهود الحربى لبريطانيا وحلفائها بعد أن صارت مصر مسرحا لعمليات عسكرية فى حرب لاناقة لها فيها ولا جمل، وصبر المصريون مكرهين ومغلوبين على أمرهم حتى تنتهى الحرب وتنتصر بريطانيا، ليكون لهم حق تقرير مصيرهم واستقلالهم،، وكانت سنوات القهر والعناء خلال سنوات الحرب العالمية دافعا قويا شحن المصريين بأسباب الغضب إذا لم تحقق بريطانيا وحلفاؤها وعودهم بمنح البلاد، التى حاربت إلى جانبهم حق تقرير مصيرها مما يعنى استقلالها وحريتها،، ونود هنا التأكيد على أن ثورة المصريين عام 1919 لم يكن سببها اعتقال زعماء الوفد، لأن أسباب الثورة كانت كامنة فى العقدين السابقين على اندلاعها، منذ الموجة الثانية من الحركة الوطنية التى برز من قادتها مصطفى كامل ومحمد فريد وغيرهما ممن أيقظوا الروح الوطنية من القنوط الذى ران عليها عقب الاحتلال،، غير أن القبض على سعد زغلول ورفاقه ونفيهم كان هو الشرارة التى فجرت أحداث الثورة والنشاط الثورى الذى استمر لنحو ثلاث سنوات توقف بعدها ليخلو الميدان للساسة والزعماء السياسيين، وتبدأ قصة الوفد عندما وضعت الحرب أوزارها فى نوفمبر عام 1918 وبدأ الجميع يتفكرون فى تأليف وفد وطنى للسفر إلى مؤتمر الصلح فى باريس، ليعرض قضية مصر عليه والمطالبة بإستقلالها،، ولم يكن التفكير فى مستقبل مصر قاصرا على فئة أو طائفة دون غيرها،، بل كان عاما وكأنما أوحى إلى الأمة بجميع طبقاتها أنه حان وقت العمل لتقرير مصير البلاد،، كانت هناك جهود الساسة سعد زغلول ومحمد محمود وعلى شعراوى ولطفى السيد وعبد العزيز فهمى وغيرهم، وكانت هناك جهود من جانب الحكومة ممثلة فى حسين رشدى وعدلى يكن وغيرهما، وجهود من جانب بعض أمراء الأسرة الحاكمة، ورجال الحزب الوطنى،، وقد اجتمعوا فى بيت سعد فى 13 نوفمبر 1918 واتفقوا على تفويض ثلاثة منهم (سعد وعلى شعراوى وعبد العزيز فهمي) للحصول على تصريح من المندوب السامى البريطانى (السير ريجنالد وينجت) للسفر إلى مؤتمر الصلح بباريس لعرض قضية البلاد عليه، فرفض المندوب وذكر لهم أن مصر غير جديرة بالاستقلال، وأنهم ليس لهم صفة يتحدثون بها نيابة عن الشعب، كما أن رئيس الوزراء رشدى باشا استقال لرفض الحكومة البريطانية له للسفر لنفس الهدف، وتتابع الأحداث المعروفة: سعد يلقى خطابا فى فبراير 1919 يعلن فيه بطلان الحماية، الشعب يوقع توكيلات مئات الآلاف لتفويض سعد ورفاقه للحديث باسمه فى المؤتمر، مما أزعج السلطات البريطانية، وجعلها تنذر سعدا ورفاقه فى 7 مارس، ثم تقبض عليه مع ثلاثة من زملائه وتنفيهم إلى مالطة، ثار الرأى العام تجاه السير البريطانى، وبدأت وقائع الثورة بإضراب الطلاب فى 9 مارس وتبعه إضراب الموظفين والعمال والمحامين،، الخ وعمت الثورة أنحاء البلاد جميعا تندد بالحماية وتطالب بالاستقلال وجلاء الإنجليز، وصار للثوار تنظيم سرى يقوده عبد الرحمن فهمى،، وبقية أحداث الثورة ووقائعها معروفة،، كانت الروح الثورية أشبه بمارد انطلق من القمقم ولم يعد فى إمكان السلطات البريطانية السيطرة عليه رغم القمع والتنكيل وسقوط آلاف الشهداء ومئات الآلاف من الجرحى،، لقد جمعت قيادة الثورة جميع قادة الرأى فى البلاد من ساسة وحزبيين وحكوميين وأمراء وكبار ملاك،، كان هدفهم جميعا واحدا: إلغاء الحماية والجلاء العسكرى واستقلال مصر وتألفت للوفد لجنة مركزية توقع بياناتها باسمه، ولجان ثورية، ولجان سرية، على قلب رجل واحد، يفوضون الوفد بجميع أطيافه السياسية لتولى قيادة الأمة لتحقيق الهدف المنشود، كان الوفد عند قيامه يمثل صفوة رجال مصر، بلا انقسامات ولا انشقاقات، وأثبت لبريطانيا أن فى مصر رجالا من مستوى رفيع، وأن وراء هؤلاء شعبا حيا قويا مستعدا لمواصلة النضال والتضحية، وكان الأمل عظيما وأصبح الناس يقدرون أنه مادام الشعب قد استيقظ فإن الاستقلال أصبح وشيكا، عند هذا الحد نصح نائب المندوب السامى البريطانى فى مصر (شيتهام) حكومة بلاده بالإفراج عن الزعماء المعتقلين والسماح لهم بالسفر إلى باريس لعرض قضية بلادهم على مؤتمر السلام لتهدئة الأوضاع، كما أن بريطانيا فى الوقت نفسه أرسلت (اللورد اللنبى) مندوبا ساميا جديدا لها فى مصر، فجاء فى 25 مارس 1919، ولم يكن يخفى أن اختياره جاء بناء على سمعته العسكرية، لإشاعة جو من الرهبة والخوف لدى المصريين مما يؤذن بتصفية الثورة،، وكان أول نشاطه أن أشار على حكومته بالإفراج عن سعد ورفاقه والسماح لهم بالسفر إلى مؤتمر باريس، بعد أن اطمأن إلى أنها أعدت العدة ليغلق المؤتمر أبوابه فى وجوههم،، ولحق بسعد ورفاقه فى باريس عدد من قادة الوفد من مصر كما هو معروف، وأرسلت بريطانيا لجنة يرأسها اللورد ملنر للتحقيق فى أسباب «الاضطرابات» الحادثة فى مصر (لم تسمها ثورة) غير أن اللجنة وجهت بمقاطعة شعبية كما هو معروف وبعد عدة أشهر (نوفمبر 1919 مارس 1920) التقت خلالها عددا من الوزراء وأعدت تقريرها وعادت إلى لندن، وقد تزامن ذلك مع فشل الوفد فى مهمته فى باريس فلم يسمح له بدخول المؤتمر، ولذلك اقترحت بريطانيا أن ينتقل الوفد من باريس إلى لندن للتفاوض مع اللورد ملنر ولجنته،، وكان ذلك فى يونيو 1920 حيث جرت جولة المفاوضات المصرية البريطانية الأولى المعروفة بمفاوضات (سعد ملنر) التى انتهت إلى مشروع اتفاقية بين مصر وبريطانيا رفضته الأمة المصرية، لأنه لايحقق الجلاء والاستقلال المنشود، عندئذ عاد الوفد إلى باريس مرة أخرى وقد دبت الانقسامات بين صفوف رجاله، مما أدى فى النهاية إلى تفكك وحدة القيادة الوطنية، وبدا واضحا أن بريطانيا نجحت فى تهدئة الثورة والإمساك بمقاليد الأمور بعد أن كادت تفلت منها، لقد ضحى الشعب بعشرات الآلاف من الشهداء فى ثورته، وتحقق له بعض ما أراد من أسباب ثورته وأهدافها، لكن أمد الاحتلال طال، ولم يقدر له أن ينتهى إلا بعد إتمام الجلاء فى أواخر عام 1955، لقد تعجل الساسة ثمرة الثورة، فاندلعت بينهم الخلافات التى رصدتها السلطات البريطانية وذكتها لكى تهدأ الثورة وتتمزق وحدة الثوار وقيادتهم، بعد أن وحّدت بينهم أحداث الثورة وجعلتهم صفا واحدا فى مواجهة الإنجليز، عندما كان الوفد يمثل قيادة الحركة الوطنية، ويضم مختلف الزعماء والسياسيين الوطنيين جميعا، وعلى رأسهم سعد زغلول وعبدالعزيز فهمى وعلى شعراوى وحمد الباسل واسماعيل صدقى ومحمد محمود ومصطفى النحاس وويصا واصف ومكرم عبيد ولطفى السيد ومحمد على علوبة وعبدالعزيز الصوفانى وغيرهم من قادة الرأى والفكر فى البلاد، يدعمهم عدلى يكن وحسين رشدى وعبدالخالق ثروت من رجال الحكم والسياسة،، كانوا جميعا على قلب رجل واحد، رغم اختلاف الطبائع والمشارب والانتماء والأصول الحزبية، فتقدموا صفوف الشعب الثائر، ونالهم مانالهم من الاعتقال والنفى كما هو معروف، وحين جلسوا يتفاوضون مع اللورد ملنر عام 1920 أفسدت السياسة بينهم، واختلفوا قبل أن تؤتى الثورة ثمارها، وصاروا منقسمين إلى مؤيدين لسعد زغلول ومؤيدين لعدلى يكن، وجعلوا يتراشقون بالاتهامات فى غير تبصر أو رشاد حتى قال بعضهم إن الاحتلال على يد سعد خير من الاستقلال على يد عدلى،، وأتهم بعضهم سعد بالديكتاتورية، فى قيادة الوفد وإدارة المفاوضات،، ذهبوا جميعا إلى لندن يدا واحدة وعادوا إلى مصر وقلوبهم شتى،، وعندما بدأت الثورة تطل برأسها من جديد، مع توالى عمليات النضال السرى بالاعتداء على العديد من الشخصيات الإنجليزية، واغتيال بعضها، اضطرت بريطانيا أن تمنح مصر بعضا من الاستقلال بتصريح 28 فبراير 1922، الذى اعترفت فيه بزوال الحماية على مصر، ومنحها حق إدارة شئونها الداخلية وأن يكون لها دستور،، إلخ إلا أنها أبقت موضوع بقاء جيشها فى مصر، وقضايا الدفاع عن مصر وحماية الأقليات وقضية السودان، أبقتها جميعا مؤجلة لمفاوضات تالية طال أمدها ثلاثة عقود من الزمان، ولم يكن حصاد الثورة فى النهاية مكافئا للتضحيات التى قدمها الشعب، خاصة بعد أن تمزق حزب الوفد وتوالت عليه عمليات الانفصال وأصبح الوطنيون شيعا وأحزابا، واجتذبت إغراءات تولى السلطة الكثير من الزعماء الوطنيين، فانخرطوا فى صراع حزبى مقيت توارت معه مصالح البلاد العليا، وتأجل الاستقلال المنشود الذى رفعت الثورة شعاره منذ البداية،