يمكن وصف القمة الثانية التى عقدت بين الرئيس الأمريكى ترامب والرئيس الكورى الشمالى كيم جونج أون, بحالة اللاتقدم واللاتراجع, ليبقى الوضع كما هو عليه ضمن المربع الأول. فرغم التوقعات الكبيرة التى صاحبت انعقاد القمة بشأن إمكانية إبرام اتفاق تاريخى بين الدولتين حول الملف النووى لكوريا الشمالية, فإنها انتهت دون صدور بيان مشترك وانسحاب ترامب الذى كان يراهن على تحقيق إنجاز يستطيع من خلاله أن يعزز موقفه ضد الضغوطات الداخلية فيما يتعلق بقضية التدخل الروسى فى الانتخابات أو إعلانه حالة الطوارئ لبناء الجدار الحدودى مع المكسيك وما أثاره من معارضة شديدة داخل الكونجرس. انعقاد القمة بين ترامب وكيم يعد إنجازا كبيرا فى حد ذاته ويؤكد حرص الطرفين على مسار الحوار، كذلك انخفاض منسوب التصعيد إستمرار حالة التبريد يعد إنجازا أيضا، خاصة أن كوريا الشمالية امتنعت عن إجراء أى تجارب نووية جديدة أو إطلاق صواريخ باليستية منذ القمة الأولى فى يونيو 2018 وهو ما اعتبره ترامب إنجازا كبيرا, إضافة إلى إفراج كوريا الشمالية عن رفات الجنود الأمريكيين فى الحرب الكورية وبعض الأسرى, لكن باستثناء ذلك لم يحدث تقدم جوهرى بين الجانبين وهذا لعاملين: الأول: الثقة المفقودة بين الجانبين وأيهما يقدم التنازل أولا ويبدأ بالخطوة المسبقة, فالولاياتالمتحدة تريد أن تقوم كوريا الشمالية أولا بوضع برنامج زمنى لتفكيك برنامجها النووى بشكل كامل مع ضمانات لعدم العودة إليه مرة أخرى, ثم تقوم بعد ذلك الولاياتالمتحدة برفع جزئى للعقوبات الأمريكية والدولية على كوريا الشمالية وتطبيع العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين, بينما كوريا الشمالية تريد أولا رفع العقوبات وتقديم المساعدات الدولية لها مع ضمانات أمريكية بعدم إسقاط النظام, ثم تقوم بعد ذلك بالبدء فى التخلى عن السلاح النووى ورهنه بمدى التقدم فى مستوى تطبيع العلاقات ورفع العقوبات, ومن هنا كانت الإشكالية الأساسية, فكيم أون ليس من السهولة أن يتخلى عن السلاح النووى وهى الورقة الاساسية له فى التفاوض لتحقيق أهدافه, كما أن بلاده استثمرت كل مواردها فى امتلاك الردع النووى خلال السنوات الماضية على حساب الوضع الاقتصادى الذى تدهور بشكل كبير خاصة مع فرض حزم عديدة من العقوبات المختلفة سواء من مجلس الأمن أو من جانب أمريكا، ولذلك فإن أقصى ما يمكن ان يقدمه من تنازلات هو إغلاق مفاعل ينجبون النووى وعدم إجراء تجارب نووية جديدة، فى المقابل يخشى ترامب من رفع العقوبات قبل التفكيك وهو ما قد يعرضه لانتقادات كبيرة ، خاصة مع تقارير الاستخبارات الأمريكية بأن نظام كيم مستمر فى تطوير البرنامج النووى سرا. حالة عدم الثقة بين الجانبين تعود إلى التجارب السابقة فى الحوار بين الجانبين, خاصة فى عهد الرئيس كلينتون ووالد الرئيس الحالى كيم يونج ايل، وكذلك فى عهد الرئيس بوش الابن سواء المحادثات الثنائية بينهما او عبر آلية المحادثات السداسية مع انضمام الصين واليابان وروسيا وكوريا الجنوبية لهما، حيث لم تفض تلك المحاولات إلى تقدم جوهرى بل على العكس فى كل جولة للحوار كان يعقبها قيام كوريا الشمالية بإجراء المزيد من التجارب النووية، وإطلاق الصواريخ الباليستية كما حدث فى عام 2017 عندما أجرت التجربة الهيدروجينية وإطلاق الصاروخ بعيد المدى هافوسونج 14 الذى يستطيع الوصل إلى الأرضى الأمريكية، ويقابله فرض المزيد من العقوبات الدولية على كوريا الشمالية. الثانى: مفهوم التسوية والصفقة لدى أطراف الأزمة المختلفة، فالصفقة وفقا للمنظورالأمريكى تقوم على النزع الكامل للسلاح النووى مقابل رفع العقوبات، بينما الصفقة فى المنظور الكورى الشمالى ومعه الصين تقوم على النزع الشامل للسلاح النووى من شبه الجزيرة الكورية أى نزع السلاح النووى الأمريكى الموجود وانهاء الوجود العسكرى الأمريكى فى كوريا الجنوبية، وكذلك فى منطقة بحر الصين الجنوبى، وتفكيك منظومة ثاد للدفاع الصاروخى فى سيول، وذلك مقابل تخلى كوريا الشمالية عن سلاحها النووى. كما توظف الصين الورقة الكورية الشمالية كإحدى أدوات الضغط فى حربها التجارية مع الولاياتالمتحدة، كما إنها لا تريد انتقال كوريا الشمالية، من الفضاء الشيوعى الصينى إلى الفضاء الغربى على غرار كوريا الجنوبية مما يفقدها أحد أهم حلفائها. أما الصفقة وفقا للمنظور اليابانى والكورى الجنوبى فتقوم على نزع وتفكيك الصواريخ الباليستية لكوريا الشمالية، والتى هددت البلدين أكثر من مرة، إلى جانب نزع سلاحها النووى. ولذلك كان التناقض فى مفهوم الصفقة ومدى التنازلات بين الأطراف المختلفة احد عوامل تعقد الأزمة، إضافة إلى أن نزع السلاح النووى لكوريا الشمالية يتطلب أن يكون فى إطار منظور دولى خاصة مجلس الأمن الدولى وليس فقط المنظور الثنائى بين ترامب وكيم، لأن المسألة تتعلق بالانتشار النووى الذى يشكل مصدرا لتهديد السلم والأمن الدوليين, كما أنه يمثل ضمانة لتبديد حالة الثقة المفقودة بينهما. التصعيد أو العودة إلى الوراء ستكون مكلفة لكل الطرفين, لكن التقدم إلى الأمام وتسوية هذا الملف نهائيا ستكون عملية شاقة وطويلة لتظل حالة اللاتقدم واللاتراجع هى السائدة على الأقل فى المدى المنظور. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد سيد أحمد