للوهلة الأولى لا يكاد المرء يصدق نفسه وهو يطالع وثيقة «الأخوة الإنسانية» التى وقّع عليها فى أبو ظبى منذ أسابيع شيخ الأزهر الشريف وبابا الفاتيكان. فالوثيقة تُشع بالأمل، وتهدهد المخاوف، وتُلهم، وتؤذن بمرحلة جديدة فى الحوار الإسلامى المسيحى بوصفه شكلاً من أشكال حوار الثقافات. أهمية الوثيقة ليست فقط فى كونها الأولى والأهم فى تاريخ العلاقة بين أكبر مؤسستين دينيتين فى العالم، ولا فى أنها تتسم بدرجة بالغة من الشجاعة الروحية فى التعبير عن نزعة تصالحية جديدة تطوى صفحات تاريخية قديمة، ولكن أهمية الوثيقة تكمن فى أنها تمثل أول رد فعل فكرى يجيء بعد ربع قرن من الزمان على مقولة صراع الحضارات التى روّج لها المفكر صموئيل هانتنجتون. تجيء الوثيقة فى الوقت المناسب تماماً بينما يتصدّر المشهد العالمى المعاصر جماعات التطرف الدينى العنيف فى الشرق لدى تنظيمات تنسب نفسها زوراً إلى الإسلام، وأحزاب وقوى اليمين القومى المتطرف فى الغرب. هذا المشهد الذى أنتج أوضاعاً مأساوية تصفها الوثيقة بأنها أثمرت فى الشرق كما فى الغرب عن أعداد يصعب تقديرها من القتلى والأرامل والثكالى والأيتام، لأنه ليس لدينا بالفعل إحصاء بأعداد ضحايا هذا الصراع، لكن المؤكد أن الرقم مخيفٌ وكبير. فى الوثيقة درجة بالغة وغير مسبوقة من الشجاعة والصدق فى التعبير عن المخاطر التى تتعرض لها البشرية من جانب قوى صناعة الدمار (سباق التسلح)، وأنظمة التربح الأعمى التى تشير إلى الجماعات الإجرامية المنظّمة فى مجال الاتجار بالبشر والمخدرات والنساء والأعضاء البشرية، وغيرها من صور الاستغلال المهين لكرامة الإنسان وقدراته التى وهبها الله إياه، والتى يسيء مصاصو الدماء الجدد استغلالها أسوأ استغلال، فيما يمثل إعادة إنتاج لظاهرة العبودية التى كان الظن أن البشرية المعاصرة قد تجاوزتها. تجلّت الشجاعة الروحية (بل والسياسية) فى الوثيقة إلى حد نعت المشهد الدولى المعاصر بأنه يمثل حرباً عالمية ثالثة على أجزاء، وأن هناك أماكن أخرى يجرى إعدادها لمزيد من الانفجار وتكديس السلاح والذخائر. بوسع كل الحالمين بعالم جديد أن يجدوا فى وثيقة «الأخوّة الإنسانية» ضالتهم المنشودة أياً كان انتماؤهم الأيديولوجى، ولا غرابة فى ذلك لأن الأحلام النبيلة تتجاوز أى تقسيمات سياسية أو فكرية. ولهذا يمكنك أن تجد فى الوثيقة مثلاً رؤية اقتصادية للعدالة الاجتماعية تذكرنا بالأدبيات الاشتراكية واليسارية الطوباوية وهى تتحدث عن الفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين، وعن التوزيع غير العادل للثروات والفساد وعدم المساواة. وستجد فيها رؤية سياسية وقانونية وهى تتحدث عن المهجرين والنازحين وضحايا الحروب والاضطهاد والظلم والمستضعفين والأسرى والمعذبين فى الأرض. وبالوثيقة أيضاً رؤية روحية شجاعة وهى تذكر أن أهم أسباب أزمة العالم تكمن فى تغييب الضمير الإنسانى وسيادة النزعة الفردية التى تضع القيم المادية والدنيوية موضع المبادئ العليا المتسامحة. قد يرى البعض أن الوثيقة بذلك مغرقة فى المثالية غير المجدية لكنها فى الواقع كانت تقول كلمتها، وهذا بحد ذاته ممارسة للمسئولية الأخلاقية من مؤسستين دينيتين سامقتين لا تملكان سوى سلطاتهما الروحية والأدبية. أما الرؤية الاجتماعية للوثيقة فهى تعيد التذكير بقيمة وضرورة مؤسسة الأسرة والتحذير من التشكيك فيها، وتؤكد حقوق الأطفال فى التنشئة الأسرية. الوثيقة هنا تشير ضمناً وإن لم تذكر صراحة إلى الظواهر الجديدة المتنامية كشر مستطير فى الإنجاب خارج إطار الأسرة، وإلى النزعات التحقيرية للقيم الأسرية والأخلاقية. لا تخلو وثيقة «الأخوّة الإنسانية» من شيء من التكرار الملحوظ فى الأفكار التى تضمنتها، وعلى أى حال فالوثيقة ليست صكاُ قانونياً أو سياسياً يمكن التعامل معه بمنهجية الوثائق القانونية والسياسية، بل يجب النظر إليها كوثيقة روحية وفكرية ملهمة يمكن البناء عليها بمبادرات سياسية أو قانونية أو ثقافية أخرى. ما هو لافت فى الوثيقة أنها اشتبكت مع بعض الأفكار والممارسات المخالفة للنهج الروحى والأخلاقى لدى مؤسستى الأزهر والفاتيكان لكنها خرجت من هذا الاشتباك بتقديم رؤى متسامحة ومتفهمة للاختلاف الإنسانى والنوازع البشرية. فالوثيقة تشير فى أكثر من موضع إلى خطورة تنامى نزعات الفردية المادية وتأليه الفرد لكنها تدافع بجلاء وقوة عن قيمة الحرية كحق لكل إنسان اعتقاداً وفكراً وتعبيراً وممارسةً. كما أن الوثيقة تنتقد التطرف الدينى والتعصب الأعمى لكنها ترفض فى الوقت نفسه التطرف الإلحادى اللادينى. السؤال الآن هو: ماذا بعد إصدار وثيقة «الأخوّة الإنسانية»؟ وكيف نعطى لها قوة الدفع المطلوب لكى تتحوّل من مجرد وثيقة نظرية (مسكونة) بالآمال إلى أداة عمل (قادرة) على إحداث التغيير فى عالم يُنذر بمزيد من الحروب والصراعات؟ لعلّ الإجابة تدعو إلى التفكير إجرائياً فى إنشاء مجموعة عمل مشتركة من الأزهر الشريف والفاتيكان تعكف على دراسة ما يمكن تفعيله من أحكام الوثيقة وما هى آليات ووسائل هذا التفعيل. لا أعرف ما إذا كان يمكن مثلاً أن تتبنى منظمة دولية مثل اليونسكو هذه الوثيقة لتصدر بها توصية أو قرار؟ وما هى إمكانية أن تُترجم الوثيقة إلى مشروع لاتفاقية دولية تحظى بمساحة أوسع وأكبر للتأثير والانتشار؟ جيدٌ أن تتضمن الوثيقة دعوة إلى المفكرين والفلاسفة والإعلاميين والفنانين والمبدعين لإعادة اكتشاف قيم السلام والخير والعدل والعيش المشترك، فهل يتحقق ذلك بمبادرات فردية طوعية أم يمكن العمل على ذلك من خلال أطر ومبادرات جماعية أو مؤسسية؟... ما سبق وغيره تساؤلات مطروحة ومطلوبة، لكن يبقى أن الوثيقة هى الأولى من نوعها وفى قوة ورمزية من وقعا عليها. الوثيقة وحدها لن تغيّر العالم لكنها تلهم بإصلاحات سياسية واقتصادية وتعليمية وثقافية مطلوبة وقادرة إذا ما خلصت النيات على تحويل الأمل إلى قوة. فهل تكون وثيقة الإخوّة الإنسانية بشيراً بسطوع قوة الأمل؟. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم