فى أغلب المراحل التاريخية التى تمر بها الإنسانية يقيض الله لها عددا من العقلاء والحكماء، تتفاوت مراتبهم ومكانتهم وتأثيرهم من الأنبياء والرسل والمصلحين والمفكرين والعلماء، نذروا حياتهم لإضاءة الطريق أمام البشر، وكشف الجوانب المظلمة فى حياتهم، وتعيين الطريق والسبيل الذى يكفل السير فيه نحو المدينة الفاضلة، التى تحظى بالسعادة والفضيلة، وتتخلص من الانحطاط والرذيلة وتدفع الإنسان، للنظر لذاته ورؤيتها على حقيقتها والسعى لتغييرها ومواجهة هذا التحدى لتفعيل إنسانيته وتأكيد استحقاقها لهذا الوصف. فى هذا السياق تنخرط وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمى والعيش المشترك التى صدرت عن مؤتمر الأخوة الإنسانية الذى انعقد فى أبو ظبى بدولة الإمارات، والتى وقعها فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر والحبر الأعظم بابا الفاتيكان البابا فرانسيس، فكلا الرجلين بتأثيرهما الروحى والدينى لدى ملايين المسلمين والمسيحيين الكاثوليك فى العالم، يكتبان صفحة جديدة فى تاريخ العلاقات بين الإسلام والمسيحية، صفحة تتجاوز موروث الماضى وتتجه صوب المستقبل فضلا عن مواجهة التحديات العالمية الراهنة. المناخ الذى صدرت فيه هذه الوثيقة, وثيقة الأخوة الإنسانية، ربما يستدعى إلى الذاكرة الإنسانية، الظروف والآثار الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية التى أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية والدمار والخراب والقتل وجرائم الإبادة والاستعمار، وهى الظروف التى أدت إلى إصدار الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى 10 ديسمبر عام 1948، والذى أسهم فى إخراجه إلى حيز النور لفيف من الساسة والدبلوماسيين والحقوقيين الذين أرادوا وضع ميثاق أخلاقى وقانونى ملزم للعالم، ويحول دون تكرار هذه الجرائم. قد تتشابه ظروف العالم اليوم فى جانب كبير مع تلك الظروف الماضية وبما يواكب إصدار وثيقة الأخوة الإنسانية, فالإرهاب والتطرف والعنصرية تتصدر المشهد العالمى، كما أن الحروب الأهلية وتفكيك الدول الوطنية وانتشار ظاهرة اللجوء والنزوح والمجاعات تعصف بالعديد من الكيانات الوطنية فى الشرق الأوسط والعالم العربى، المؤكد أن التشابه السالف الإشارة إليه قد يكون جزئيا مقارنة بنتائج الحرب العالمية الثانية، ولكنه بالقطع كفيل بأن يدفع صوب صدور هذه الوثيقة «الأخوة الإنسانية»، وإذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون والأقوياء، فإن العقلاء قادرون على تصويب التاريخ وكتابة رواية لأحداثه مختلفة عن رواية الأقوياء. وثيقة الأخوة الإنسانية غنية بالدلالات والمعانى والقيم والمبادئ، فى مقدمتها تأكيد الاختلاف والتنوع بين البشر من حيث الديانة والنوع والعرق والجنس واللغة والمذاهب، وهذا التنوع والاختلاف هو سنة الله فى الأرض والكون، وفطرته التى فطر عليها الناس، وهذا التنوع أحد مصادر التدافع الحضارى والتفاعل والتواصل بين بنى الإنسان، ولم يدرك البشر تمام الإدراك الحكمة الإلهية فيما وراء هذا الاختلاف، ولم يستوعبوا بعد رسالة التنوع بين البشر فى الثقافة والديانة والجغرافيا، ونتيجة لسوء الإدراك وقصوره عن استجلاء كنه هذا التنوع، فإن بعضهم يرفضه ويبحث عن الوحدة القسرية، ويريد اختزال هذا التنوع فى قالب دينى واحد ومذهبى واحد يتعارض مع حكمة الخالق، ويرى أن التعصب والتطرف والإرهاب والقتل هى أدوات خلق هذه الوحدة الإنسانية والقسرية بالإضافة إلى العنصرية والكراهية. لفتت الوثيقة الانتباه إلى الطابع المتناقض للتقدم المعاصر وشموله الإيجابيات والسلبيات، الأولى تتمثل فى التقدم العلمى والتقنية والطب والصناعة والرفاهية، أما الثانية فتتمثل فى تراجع الأخلاق، وانهيار عوامل الضبط الأخلاقية، وتراجع القيم الروحية، وتدنى الشعور بالمسئولية وهذا الجانب على نحو خاص هو أحد الدوافع للتطرف والعنصرية والكراهية، ومن ثم تضطلع الوثيقة بتقليص سلبية هذه الجوانب من خلال إحياء القيم الدينية وتأكيد الأهداف الحقيقة للأديان فى نشر السلام والمحبة والانفتاح والتسامح، وتشدد الوثيقة على أن احتواء الآثار السلبية للتقدم المعاصر هو مسئولية كبيرة تقع فى مقدمة الأولويات التى ينبغى معالجتها. أما ثالث هذه المبادئ فيتمثل فى تكامل الحضارات وتفاعلها وتداخلها, إنه بالمعنى الحضارى العام او بالمعنى الثقافى والسياسى والاقتصادى والدينى، فالعلاقة بين الشرق والغرب هى ضرورة قصوى لكليهما، لا يمكن الاستعاضة عنها، أو تجاهلها ليغتنى كلاهما من الحضارة الأخرى عبر التبادل وحوار الثقافات فبإمكان الغرب أن يجد فى حضارة الشرق ما يعالج به بعض أمراضه الروحية والدينية التى نتجت عن طغيان الجانب المادى، كما بإمكان الشرق أن يجد فى حضارة الغرب كثيرا مما يساعد على انتشاله من حالات الضعف والفرقة والصراع والتراجع العلمى والثقافى والتقنى ويؤكد هذا المبدأ الاعتراف المتبادل بقيمة الحضارات الإنسانية غربية أو شرقية. من ناحية أخرى يبقى أن وثيقة الأخوة الإنسانية جمعت بين سطورها بين الدينى والزمنى، بين الدين والمحتوى السياسى والإيديولوجى والاقتصادى للسياسات المعاصرة، ومن ثم فهى ليست وثيقة دينية فحسب أو زمنية معاصرة فحسب، بل الاثنان معا، وبهذا المعنى فإن الوثيقة تحمل المسئولية فى النهوض بالعالم من أزمته الراهنة للقيادات الدينية والسياسية والزمنية فى العالم، لأنه كما أفضى التعصب الدينى والإرهاب إلى العنف والقتل ومصادرة التسامح فإن السياسات الراهنة أساءت توزيع الثروات وأفضت بالملايين من البشر فى أحضان الجوع والمرض والتهميش والعنصرية. فى هذا السياق فإن الوثيقة حرصت على الإشارة للمواثيق الدولية الخاصة بحقوق المسنين والضعفاء وذوى الاحتياجات الخاصة للمستضعفين؛ لكى تؤكد طابعها المتوافق مع منجزات المجتمع الدولى الحديث والمكمل لها. من الناحية العملية فإن هذه الوثيقة التاريخية فى التطبيق العملى وترجمتها فى الواقع، يمكنها أن تتخذ صورا شتى، كما فعلت جامعة الأزهر التى قررت عقد ندوات لشرح مضمونها للطلاب، وكما يمكن أن تقرر وزارتا التربية والتعليم والتعليم العالى أن تضمنها مناهج التربية الدينية والوطنية، وغير ذلك من الأساليب والإجراءات التى تكفل إخراج ترجمة صادقة وأمينة للوثيقة واعتبارها دليل عمل عالميا لمكافحة الإرهاب والتطرف والعنصرية. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد