رحلة كفاح.. بدأت فى المغرب وانتصرت من مصر أنقذته الشرطة المصرية من أيدى الفرنسيين أثناء ترحيله عبر قناة السويس إلى باريس
تحل هذه الأيام ذكرى أحد أبطال أمتنا العربية فى العصر الحديث، وهو الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابى، المُجاهد المغربى الذى قاد حركة مُقاومة الاستعمار الإسبانى- الفرنسى فى المغرب منذ عام 1920م. ولد الخطابى عام 1882م فى منطقة «الريف» بشمال المغرب، تلك المنطقة الجبلية شحيحة الموارد القاسية، التى كان قدرها أن تكون خط الدفاع الأول عن المغرب من جهة الشمال. ............................ وبحلول عام 1912م تمكنت فرنسا من فرض حمايتها على المغرب، وقبلها كانت إسبانيا تحتل العديد من الجزر المغربية، فضلاً عن جزء مُعتبر من شمال المغرب أيضا، ومع خضوع الدولة المغربية للحماية الفرنسية، كان على زعماء قبائل الريف، مقاومة التمدد الاستعمارى فى مناطقهم بأيديهم، وكان من بين هؤلاء والد الخطابى زعيم قبيلة بنى ورياغيل، والذى سرعان ما سقط صريعاً عام 1920م بعد أن دس له الإسبان السم بواسطة أحد عملائهم. ليحمل ابنه محمد بن عبد الكريم الخطابى راية الجهاد خلفاً لوالده، وبدأ الابن فوراً فى جمع شتات القبائل وتوحيد كلمتهم، فاجتمع له لواؤهم، واختاروه رئيساً لهم مُعلناً قيام جمهورية الريف المستقلة، وخاض برجالها مئات المعارك، موقعاً بالمستعمر أشد الهزائم، الأمر الذى توجه بمعركة «أنوال» عام 1921م التى قضى خلالها على جيش الجنرال الأسبانى (سلفسترى) الذى انتحر فى أرض المعركة. وأمام هذا الوضع اضطر الأسبان إلى التحالف مع الفرنسيين لمحاربة الخطابى، ومع صمود المغاربة وتحصنهم بالجبال وتطبيقهم للعديد من الحيل التى ابتكرها الخطابى والتى عرفت فيما بعد بحرب العصابات، لم يجد الحليفان إلا ضرب المجاهد ورجاله ومنطقة الريف كلها بالغازات الكيميائية السامة؛ الأمر الذى عصف بالمنطقة وترك آثاره المدمرة واللاإنسانية فيها إلى اليوم. وبعد صمود دام لستة أعوام، وبأسلحة متواضعة وموارد شحيحة، تكبد المُجاهدون والأهالى أفدح الخسائر، ليجد الخطابى نفسه أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن يواصل الجهاد ببضع عشرات من الجنود الذين بقوا معه أحياء، مُعرضا منطقة الريف بأكملها للإبادة، وبين وقف قصف المدنيين وصون حياتهم مقابل تسليم نفسه للفرنسيين كأسير حرب، وبعد مفاوضات قبل محمد عبدالكريم الخطابى تسليم نفسه هو وكبار رجاله وعلى رأسهم شقيقه وعمه، وبالفعل فى عام 1926م اختار الخطابى إيقاف قصف المدنيين واتجه للمنفى كأسير حرب، آملاً فى أن يخرج الله من أصلاب من بقى حياً من أهل الريف من يحمل الراية مواصلاً الجهاد. وبعد أكثر من عقدين من الزمان قضاهما الخطابى فى المنفى بجزيرة «رينيون» فى المحيط الهندى، وبعد أن ذاق مرارة الأسر والبعد عن الأوطان، ومع التضييق عليه هو وأسرته، اضطر للعمل ليجد ما ينفق به عليهم بعد أن صادر المستعمر أملاكه فى الريف، و افتتح محلاً تجارياً بالجزيرة أتبعها بشراء مزرعة عمل بها هو وأبناء أسرته، الذين تزايد عددهم لأكثر من أربعين فرداً. وبرغم معاناته فى المنفى وبعد أن توفيت والدته، واثنان من مساعدى الأسرة متأثرين بمرض الملاريا المنتشر فى الجزيرة، ورغم بذله المساعى مراراً للخروج من المنفى، فإنه رفض عروض بعض الدول لتهريبه من الجزيرة لأنه لم ير فيها أية فائدة لبلاده، وأنه سيعيش كلاجئ لدى هذه الدولة أو تلك. وفى عام 1947م وافقت فرنسا على استبدال منفى الخطابى فى جزيرة «رينيون» بمنفى آخر على أراضيها، وخلال عبور الباخرة المُقلة له بميناء السويس المصرى، طار الخبر إلى الملك فاروق ملك مصر، عن طريق بعض المغاربة المُقيمين فى مصر، فوافق الملك على نزول الأمير فى مصر، وتحريره من قبضة الفرنسيين. وتم إعداد خطة لتخليصه وأرسل فاروق بعض أفراد الشرطة المصرية متنكرين فى ثياب مدنية بصحبتهم بعض السيارات، ليلتقوا الأمير فى ميناء بورسعيد أثناء توقف الباخرة للتزود بالوقود، وخلال ساعات وفى 1/6/1947م كان الأمير وأسرته يتناولون الإفطار فى بيت فؤاد شرين محافظ بورسعيد، قبل نقلهم للقاهرة،وعندما التقى الملك فاروق بالخطابى رحب به وأكرمه، وعندما رأى أعراض المرض بادية عليه أمر بأن يكون تحت رعاية طبيبه الخاص. وخلال 16 عاماً قضاها الخطابى فى مصر تمكن بمعاونة الحكومة المصرية فى ربط اتصال مع جامعة الدول العربية برئاسة أمينها عزام باشا، فقدمت له الجامعة الدعم المادى والأدبى، حتى استطاع برفقة بعض مواطنى شمال إفريقيا المقيمين فى مصر (تونسوالجزائر والمغرب) من تأسيس لجنة تحرير المغرب العربى عام 1948م وتولى رئاستها مواصلاً الجهاد من القاهرة، وعلى عجل أرسل بعضهم للدراسة فى الكلية الحربية فى كل من بغدادودمشق، فضلاً عن الذين ألحقتهم الحكومة المصرية بالكلية الحربية المصرية وكلية الشرطة، كما وضعت مصر تحت تصرف الزعيم الخطابى أحد المعسكرات فى منطقة الهايكستب لتدريب الشباب المغاربة، وقررت له راتباً شهرياً قدره 580 جنيها لمعيشته،واشترت له منزلاً فى شارع قاسم أمين بحى حدائق القبة. عمل الخطابى سريعا على التواصل مع المُجاهدين فى الريف، للوقوف على قدراتهم لمواصلة الجهاد، كما عمل على تحريض الجنود المغاربة فى الجيش الفرنسى للتخلى عن فرنسا والانضمام إلى إخوانهم المُجاهدين، فكان المغاربة فى الجيش الفرنسى المُحارب فى فيتنام من أوائل المُستجيبين لنداءات الأمير، فأخذوا فى الفرار إما إلى المغرب وإما بالانضمام إلى صفوف الفيتناميين، حتى أن بعضهم تزوجوا من فيتناميات، وظلوا هناك إلى أن تدخلت مصر لإعادتهم لبلادهم فيما بعد. كما كان الخطابى يلتقى بالحجاج المغاربة المارين بقناة السويس خلال رحلة الحج، وكذا الطلبة المغاربة المنتظمين فى الجامعات المصرية وفى الأزهر، كما تمكن من مد نفوذ لجنة تحرير المغرب العربى إلى دمشق ولبنان وغيرها من العواصم العالمية، وربط اتصال مع معظم الرؤساء والملوك فى المنطقة، والذين أيدوا حق شعب المغرب فى الحرية ودعموه بكل قوة، الأمر الذى كان من نتائجة اندلاع الثورة فى تونس فى يناير 1952م، وبدأت ضربات التوانسة تتوالى على قوات الاحتلال الفرنسى. وفى مصر قامت الثورة المصرية فى يوليو 1952م وأسقطت الملكية، وتولى الرئيس محمد نجيب الرئاسة فى مصر، مواصلاً دعمه للخطابى، قبل أن يخلفه الرئيس جمال عبدالناصر، الذى سار على نفس النهج من دعم الخطابى والمغاربة. ثم تفجرت الثورة الجزائرية فى أكتوبر 1954م،وعانت فرنسا من هجمات الجزائريين على قواتها، حتى صدر البيان الأول لجيش تحرير المغرب من القاهرة فى أكتوبر 1955م، ليهب المغاربة أيضاً فى وجه الاستعمار، فتزامنت ضربات جيش التحرير ضد المستعمر الفرنسى فى بلدان المغرب العربى الثلاث، الأمر الذى اضطر فرنسا إلى منح التوانسة والمغاربة الاستقلال فى مارس 1956م، مُحتفظة بالمستعمرة الأقدم والأهم بالنسبة لها وهى الجزائر. ومع هذا الوضع وبخروج كل من تونس والمغرب من حلبة الصراع مع المستعمر، تفرغ الخطابى للدفاع عن الجزائر، ورفض العودة إلى المغرب عندما دعاه الملك محمد الخامس أثناء زيارته له فى بيته فى القاهرة عام 1960م، حيث قال للملك: أنه لن يعود للمغرب إلا بعد رحيل آخر جندى أجنبى عن أرض بلاده. واستمر الخطابى على تلكم الحال، مجاهداً حتى حصلت الجزائر على استقلالها عام 1962م. وبعد رحلة الكفاح الطويلة،شاهد الخطابى جهاده وقد تكلل بالنجاح، تحررت بلدان شمال إفريقيا الثلاثة،و آن له أن يستريح، فأسلم الروح إلى بارئها يوم 6/2/1963م، وكما احتفت مصر بالرجل العظيم حياً احتفت به بعد رحيله وأقامت له جنازة عسكرية رسمية، ليستقر بجسده وسط خيرة أبنائها وجنودها البواسل، فى مقابر الشهداء بمنطقة الدراسة بالقاهرة.