تلقي المسئول الكبير اتصالا مفاجئا من نجله الشاب بأنه مُلقي علي قارعة الطريق، إثر تعرضه لحادثة، فسارع إليه فورا، وبعد نحو نصف ساعة وصل إلى مكانه فوجده مسجى بين الحياة والموت، فخف لنقله إلي أقرب مستشفي. وكان على بعد عشرين دقيقة، وهناك لم يجدوا الطبيب المناوب، فاتصلوا به، ودخل الشاب في غيبوبة، نتيجة الدماء الغزيرة التي نزفها، وجاء الطبيب بعد عشر دقائق، لكن المحاولات التي بذلها لم تجد في إسعافه، فلفظ أنفاسه، وفارق الحياة. حادثة تكاد تتكرر كل يوم في ربوع مصر. والسؤال: من المسئول عن فقد هذه الروح البريئة؟ هل هو الطريق بسوءاته، إذ تُرك بلا خدمات أم وزارة الصحة التي لم توفر مستشفيات قريبة، بعضها من بعض ، أم وزارة الداخلية التي لم تقدم مرورا آمنا على الطريق، أم المارة الذين لم يتوقف أحد منهم لمساعدة المصاب، أم طبيب المستشفي الذي شاب عمله الإهمال، أم الشاب نفسه الذي عبر الطريق دون أناة، أم صادمه الذي ولى هاربا، بعد صدمه، ولم يعقب، أم الأب نفسه.. أم أم.. إلخ؟ الواقع أن الكل مسئول: المجتمع، والأفراد، في هذه الحادثة، وغيرها من الحوادث.. وكلنا معرض -دون استثناء- لهذه التجربة، وتجارب أخرى مشابهة، علي الطريق، وفي المنزل، وبجهة العمل. ومع أن الكل مسئول إلا أن الكل بدون مسئولية تقريباً، بمعنى أن المسئولية الفردية التضامنية هنا عامل مشترك بين الجميع لكنه أمر قائم دون تقديم شخص بعينه للمُساءلة برغم أننا جميعا ندفع الثمن مضاعفا، من جراء انعدام الإحساس بالمسئولية، وتشتتها بين الجميع. إن استمرار ضياع الإحساس بالمسئولية، وطمس حدودها بين مواطن وآخر، حيث لا أحد يشعر بمسئوليته تجاه شيء أو أحد ما.. يعني اتساع الخروق علي الراتق، ونشأة بلد ضعيف، وشعب واهن، بحكم أن أفراده يغلب عليهم التشرذم، والتفكك. من هنا تأتي أهمية العمل الجماعي، وضرورة التحلي بروح المسئولية الفردية.. فلن يسعد أي مجتمع أو يتقدم إلا بتوفر هذين العاملين، بدءا من إعطاء الطريق حقه، ورفع الأذى عنه، مرورا بأبسط الحقوق الاجتماعية، وانتهاء بمؤسسات الدولة، وجوانب العمل، وكلها تحتاج إلى عمل جماعي، وإحساس فردي. كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ :"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ " قَالَ : فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ :وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه". (أخرجه البخاري). استخدم الرسول الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث لفظ الرعاية بمشتقاته (راع ورعية) عشر مرات، وذكر كلمة "راع" من بينها خمس مرات، وكلمة "رعية" خمس مرات، وكلمة "مسئول" (والمرأة مسئولة) خمس مرات.. وبدأ حديثه بتعميم هذه المسئولية على الجميع، وضرب نماذج لهذه الرعاية ممثلة في الحاكم، باعتبار مكانه المركزي في الأمة.. والرجل، والمرأة، لكونهما يمثلان قوام أي مجتمع. وأشار إلى الخادم (أي موظف أو مُستعمل على مال). وبعد أن ضرب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المثل بهذه النماذج في الرعاية والمسئولية عاد فكرر ما بدأه بأول حديثه، حتى لا يحسب إنسان أنه لا يدخل ضمن هذه النماذج، وهكذا دخل في هذا العموم كل من لا زوج له، ولا خادم. وهكذا، بدءا من الحاكم، مررا بالرجل والمرأة، وانتهاء بالخادم أو الموظف أو الإبن: الكل راع، والكل مسئول.. فالكل تشير إلى الجماعة، ومسئول: تشير إلى المسئولية الفردية. كم "شاس" في حياتنا؟ هذه الرعاية "المسئولة" جسدها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المجتمع الذي أنشأه بالمدينة المنورة..فوطد العلاقات بين أفراده، مما أثار ضغينة من يعادون الإسلام، والملسمين. روى الطبري بسنده وغيره عن زيد بن أسلم قال: "مر شاس بن قيس -وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم، وأُلفتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة -يعني الأنصار الأوس والخزرج- بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من يهود، وكان معه فقال له: اعمد إليهم فاجلس معهم فذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، وقال بعضهم لبعض: إن شئتم رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا.. السلاح السلاح..موعدكم الحرة. فخرجوا إليها، وتحاوز الناس على دعواهم التي كانت في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين.. الله الله.. أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح، وبكوا، وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله: شاس بن قيس". هكذا كادت تحدث فتنة عظيمة في صفوف المسلمين، بسبب حقد هذا العجوز اليهودي على أُلفتهم، ووحدة كلمتهم، واجتماع شملهم، ومن ثم سارع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى إنقاذهم، وإنقاذ الدعوة، والدولة. الآن لدينا العشرات، وربما المئات، والآلآف، من أمثال "شاس بن قيس"، ممن لا يحبون الخير لهذا المجتمع، ويمكرون الليل والنهار، بهدف إحداث الفتن بين أبنائه، وهؤلاء لن نستطيع أن نواجههم إلا بروح "الرعاية المسئولة". حديث السفينة يشبه المجتمع السفينة التي تسير في بحر واحد: طريقها واحد، ومصيرها واحد، وهو الأمر الذي نبه إليه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر من رواية النعمان بن بشير :"أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ إِلَى عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ -وَأَوْمَأَ بِإِصْبَعِهِ إِلَى أُذُنَيْهِ- :"سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :"إِنَّ مَثَلَ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا وَالْمُدَاهِنِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا وَأَوْعَرَهَا وَشَرَّهَا، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوُا الْمَاءَ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَآذَوْهُمْ، فَقَالُوا :لَوْ خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَاسْتَقَيْنَا مِنْهُ وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَأَمْرَهُمْ هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا جَمِيعًا.(أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ). يُسمى هذا الحديث "حديث السفينة"، لأنه يشبه المجتمع بسفينة؛ قانونها: نجاة الجميع أو هلاك الجميع، بأفعال الأفراد، علما بأن من يريدون خرق السفينة هنا يريدون فعل ذلك في نصيبهم أصلا، فضلا عن أن نيتهم طيبة، وهي كف أذاهم عن الآخرين. والسؤال: ما بالنا إذا كان الخرق في نصيب الآخرين، والنية سيئة تجاه هذا المجتمع المسلم المسالم؟ بالتأكيد: لا سبيل لوقف شرورهم إلا بالأخذ على أيديهم. [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد