وجه عامر بابتسامة دائمة ولحية بيضاء تنسدل على صدر رحب وعلامة تقوى افترشت جبهته لم تخفها تجاعيد السنين، كنت أتحاشى الدخول معه فى مناقشة دينية غالبا تقودنا عصبيته إلى خناقة، افترقنا حين سألته عن شرعية نشر صور النساء فى مجلة مرأة، استغربت ثورته وسلفيته الزائدة فامتد الفراق بيننا 25 سنة، ثم اكتشفت أنه صار متميزا فى الجمع بين الكتابة للأطفال فى مجلة ماجد وبين الرسم بأسلوب يوظف الفن التشكيلى كمدخل لوعى الطفل، وعندما التقينا استفززته: لماذا لا نجدد خطبة الجمعة لنقصرها على الأطباء وخبراء العلوم والهندسة والجيولوجيا؟.. فسألنى: ما مناسبة السؤال؟ فحكيت له عن خطبة شاهدتها من الدكتور حسام موافى مؤسس وحدة الحالات الحرجة بقصر العينى والعميد الأشهر للطب، وأسمعتها لأولادى متيما بعلمه وطريقته فى الإلقاء، يقول موافى فى خطبته: ذهبت إلى معرض الكتاب وجذبنى مرجع من ألف صفحة عنوانه الماء وثمنه 500 دولار، غلبتنى شهوة العلم على شهوة المال فاشتريته، وجدت فيه 16طريقة يتخلص فيها الجسم من الماء، فالجسم السليم لا يحتفظ بأى قطرة ماء، ومن عنده تليف فى الكبد يصير عنده استسقاء ومريض القلب يعانى هبوطا بسبب الماء ومريض الفشل تتورم ساقاه، وبعد قراءة الكتاب سجد موافى لله شاكرا، وذهب للصلاة فوجئ بخطيب الجمعة يلخص مضمون الكتاب كله فى 9 كلمات: «وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين». وهذا الإيجاز أحد أفضال قوله: «إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلهم يفقهون» فالكلمة الواحدة فى العربية لها معان مختلفة، فكلمة كرسى لها أكثر من عشرين معنى بالعربية حسب السياق والزمن وتطور العلم لكن فى الإنجليزية ليس لها إلا معنى واحد chair، ولو أن الرسول شرح القرآن بلغته ما فهمنا منه شيئا الآن.. وفى تلك المحاضرة استمتعت بعرض حسام موافى لموقف آخر شاهده فى مؤتمر بألمانيا عن توقيت المرض.. فغيبوبة السكر والجلطة وكل مرض له توقيت، فالسكتة الدماغية مثلا تحدث فى الثامنة صباحا، والسبب أنه أثناء النوم يقل الضغط فتنكمش الشرايين تلقائيا ليستمر ضغط الدم بنفس القوة ولا يتجلط فى الأوعية، وإذا نام المريض فإن الثامنة صباحا أكثر الأوقات لحدوث السكتة الدماغية لانكماش الشرايين لدرجة الالتصاق، مالم يستيقظ المريض فى الرابعة أو الخامسة ويتحرك، ويضيف: إذا جاءنى مريض أقول له لابد أن تستيقظ الساعة الرابعة وتتمشى فى البيت وتشرب ماء وتنام، فيبعد عنك شبح الأزمة فى هذا التوقيت، والمريض المسلم فعلاجه يكمن فى قول الأذان: الصلاة خير من النوم.. وهى صلاة الفجر!. وبعد أن قصصت على صديقى الملتزم خليل الحداد حكاية الخطيب العلامة حسام موافى وتبسيطه المعجز للعلم والدين ببشاشة وجدارته بلقب أسطورة الإقناع الحية، كررت استفزازه بسؤالي: لماذا لانستبدل الأطباء والخبراء المتخصصين بالخطباء المتجهمين بالمساجد؟ فاجأنى بنكتة: أن إحدى الجهات جربت تجديد الخطاب الدينى بخبراء يدربون الناس العاديين على الخطابة لاستمالة محدودى الثقافة، وصعد الخطيب الجديد المنبر، وتكررت العلقة والضرب حتى تكسرت أضلاعه، فأخذه الخبير على جنب وطلب منه أن يخطب بلغة العصر ولكن بعلم ووقار، فسأله الخطيب كيف؟ فقال الخبير: يا حضرة المغفل سيدنا يحيى لم يمت فى حادث توك توك، ولا يوجد نبى اسمه رجب، وعندما تنتهى من الخطبة انزل بتعقل وسكينة من سلم المنبر ولا تنزل زحلقة على الدرابزين. وأضاف شيخي: لماذا إذن نلقى التبعة على الأطباء فقط.. بل الأمر يشمل الصحفيين أيضا.. لو وقفت بعد صلاة المغرب فى أى مسجد.. وعرضت ما قاله الدكتور موافى.. ثم أتبعته بتعليق عميق وخفيف.. لأضفت جديدا للخطاب الديني، فالصحفى النابه والمهندس الفقيه يمكن أن يكونا خطباء مؤثرين، فمهمة الخطيب شرح صحيح الدين الوسطى وليس الإفتاء، والخطبة مثل الرصاصة تنفذ إلى العقل إذا كانت ناعمة، وأركان نجاح الخطبة خليط من العلم والمعرفة والقدرة على النفاذ الى أعماق السامعين، وأبلغ وصف لبراعة الشيخ متولى الشعراوى سمعه من تحية كاريوكا حين وصفته وكأنه راجل قاعد على مصطبة يبسط للناس الدين ويحلى نظرتهم للحياة! فاجأنى هذا الرأى المستنير من الكاتب والفنان التشكيلى خليل الحداد الذى اتهمته ظلما بالسلفية، ثم اكتشفت أنه ألف نحو 2000قصة أدبية ل2000 لوحة تشكيلية من إبداعه فى40 سنة، لم يمنعه التزامه الدينى أن يتخرج كل أولاده فنانين بينهم ثلاث بنات وولد أعضاء فى هيئة تدريس كلية الفنون الجميلة.. ولنا فى الرسول أسوة حسنة فى اختيار الأنسب حين اختص بلال بالأذان دون كتاب الوحى، وهى شهادة على أن أول مؤهلات بلال بن رباح هو ندو الصوت وطلاوته أرحنا بها يابلال، فليس بالضرورة أن تكون فقيها لتؤذن كما أنه ليس من الضرورى أن تعتلى المنبر بحكم الوظيفة لتنجح فى الخطابة وتصل رسالتك لقلوب الناس!. لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف