تعرضت فى بعض كتاباتى السابقة لآراء بعض المستشرقين الذين ذهبوا إلى أن الفلسفة الإسلامية تخلو من الأصالة، وأنها ليست سوى نسخ مشوهة من مذاهب أخرى يونانية. ورأيت أن من المؤسف أننا صدقنا هذه الآراء، ولا سيما أن بعض أصحابها حاضروا فى الجامعة المصرية إبان نشأتها، وكان لهم تلاميذ أصبحت لهم مكانة فكرية عالية مثل طه حسين ومصطفى عبدالرازق وعلى عبدالرازق. ومن ثم راجت لدينا أفكار مضللة مفادها أن أصالة الفكر الإسلامى ينبغى ألا تلتمس لدى الفلاسفة المسلمين مثل الفارابى وابن سينا وابن رشد، بل ينبغى أن تطلب فى علم الكلام، أو التصوف، أو علم أصول الفقه. وصار التركيز فى أقسام الفلسفة فى الجامعات المصرية ينصب على هذه العلوم الأخيرة أو بعضها. وللدفاع عن أصالة الفلسفة الإسلامية ينبغى أولا الاتجاه إلى الأساس فى القضية. الفلسفة الإسلامية فيما يقال فلسفة توفيقية، أى أنها تعمل على المصالحة أو إثبات الانسجام بين الإسلام وبين الفلسفة (كما يمثلها فيلسوف يونانى أو آخر مثل أرسطو وأفلاطون). وإذا كان الأمر كذلك، فإن الفلسفة الإسلامية لم تأت بجديد. ولنعترف بادئ ذى بدء بأن الفلسفة الإسلامية كانت توفيقية بصفة عامة. ولكن هذا التوفيق كان أمرا ضروريا من الناحية التاريخية، ومشروعا من الناحية الفلسفية الصرف، وإبداعيا بقدر ما يكون العمل الفلسفى كذلك. كان التوفيق أمرا ضروريا لأن الكتب السماوية الثلاثة جاءت بآراء أساسية فيما يتعلق بوجود إله واحد، ونشأة العالم (بداية من الخلق)، ونهايته فى آخر الزمان، وبالخير والشر والأخلاق الفاضلة، وبحياة الإنسان فى المجتمع. وكانت هذه الآراء جديدة على الفكر البشرى ومباينة على نحو أو آخر لما جاء فى الفلسفات اليونانية الوثنية، ولا سيما فلسفة أرسطو وتمثل تحديا لها. والفلسفة لا تحيا فى فراغ، بل تستجيب وتتصدى دائما لكل الآراء والأقوال المتعلقة بالوجود والموجودات. وكان من الطبيعى والضرورى أن تواجه الفلسفة كما مارسها المسلمون واليهود والنصارى ذلك التحدى كمشكلة يجب العمل على حلها. وذلك أن هؤلاء الفلاسفة كانوا على اختلاف مللهم يؤمنون بما قرره أرسطو من أن الفلسفة هى العلم بالموجودات. وذلك مبدأ ينص عليه صراحة ابن رشد (فى كتابه عن فصل المقال)، كما ينص عليه بالمناسبة فيلسوف معاصر مثل هايدجر. ومعنى ذلك عمليا أن الفلسفة بوصفها ذلك العلم لا بد أن تأخذ فى الاعتبار كل الآراء أو الأقوال المتعلقة بالموجودات، سواء أكانت أسطورية أو لاهوتية أو علمية طبيعية أو شعرية. تأخذها فى الاعتبار بمعنى بحثها ونقدها وإقرارها أو رفضها أو تعديلها على ضوء ما يرتضيه العقل وحده. وعلى ضوء ما يرتضيه العقل لأن الفلسفة وفقا لهذه التقاليد الفلسفية العريقة علم نظرى صرف، أى أنه يمحص تلك الأقوال بمعزل عن الخبرة الحسية (كما هو الحال فى العلم الطبيعى التجريبي) وبالرجوع إلى القدرات والملكات الطبيعية لعقل الإنسان. ومن ثم كانت محاولات التوفيق بمعنى أو آخر بين ما جاءت به الشريعة وبين ما جاء فى مؤلفات الفلاسفة اليونانيين. ويترتب على ذلك أن الدراسة السليمة لتاريخ الفلسفة ينبغى أن تتسع لمحاولات التوفيق تلك، وأن تأخذها مأخذ الجد، وأن تفحص كلا منها على حدة لترى طبيعة التوفيق وتحكم على نتائجه. فهناك فى الواقع أشكال ونتائج مختلفة لعملية التوفيق. فقد يكون المؤرخ على حق إذا انتقد الفارابى مثلا لأنه مارس العملية بوصفها جمعا بين رأيى أفلاطون وأرسطو، ولأنه بصفة عامة جمع بين آراء هذين الفيلسوفين وآراء أفلوطين وبين الإسلام. وقد يقال حينئذ إن فلسفة الفارابى ليست سوى نوع من التلفيق. ومع ذلك فلا ينبغى أن نعمم هذا الحكم على أعمال الفارابى ككل. فكتابه فى آراء أهل المدينة الفاضلة عمل فلسفى أصيل رغم اتخاذه جمهورية أفلاطون نموذجا. وهناك كتاب آخر للفارابى فذ فى أصالته، وأعنى بذلك كتاب الحروف الذى حاول فيه بيان الصلة الوثيقة بين المنطق وبين النحو العربي. وإذا عد ذلك نوعا من التوفيق، فإن التوفيق فى هذه الحالة عمل فلسفى مبتكر. ومارس ابن رشد عملية تفسير أرسطو من زاوية إسلامية. فقد طرح السؤال التالي: هل يمكن إيجاد مكان مناسب لمبدأ الخلق ومبدأ العناية (الإلهية) فى منظومة الموجودات كما ألفها أرسطو؟ ويبدو أن ابن رشد رد على السؤال بالإيجاب عند تأليف كتاب «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، ورأى بناء على ذلك أن هناك انسجاما كاملا بين الجانبين. إن القراءة الفاحصة لشرح ابن رشد على أرسطو تدل على أن فيلسوف قرطبة انتهى إلى موقف آخر مخالف تماما لما شاع عنه. وذلك أنه اكتشف عند الخوض فى عملية الشرح المفصل لآراء أرسطو أن من الصعب إيجاد مكان راسخ لمبدأ الخلق ومبدأ العناية فى منظومة الموجودات الأرسطية. إن النتائج التى توصل إليها ابن رشد الشارح أحدثت ثورة ضخمة فى تاريخ الفلسفة. فقد أدت إلى تصدع البناء الفكرى السائد فى العصور الوسطى المسيحية، أى انفصال العلم عن اللاهوت. وتلك هى النتيجة التى استخلصها وأخرجها إلى العلن أتباع ابن رشد فى أوروبا المسيحية عندما أعلنوا أن هناك نوعين من الحقائق: حقائق خاصة بالدين، وحقائق أخرى خاصة بالعلم. ومن ثم كانت الحملة الشعواء التى شنها علماء اللاهوت المسيحيون على ابن رشد، وهى الحملة التى ظلت مستعرة طيلة قرون وتضمنت تشويه تعاليمه، وتكفيره، وشيطنته. إلا أن اللعنات التى صبت على ابن رشد كانت تخفى فى الواقع شعور قادة الحملة بالذعر والإحباط لأن الفيلسوف المسلم أطلق سفينة العلم لكى تبحر نحو الاستقلال الكامل. وهو ما حدث بالفعل فيما يسمى ثورة العلم الحديث فى القرن السابع عشر. ومن هذا نرى أن حركة استقلال العلم بدأت فى شرح ابن رشد على أرسطو. وكان الشرح بهذا المعنى عملا إبداعيا وثوريا فى تاريخ الفلسفة. لمزيد من مقالات عبدالرشيد محمودى