تناول مقال الأسبوع الماضي الداخل الإيراني بعد أربعين عاما من اندلاع الثورة الإسلامية، ولاحَظَ أن هذا الداخل تميز بدرجة عالية من الاستمرارية ومقاومة التغيير، أما مقال هذا الأسبوع فإنه مخصص لتناول السياسة الخارجية الإيرانية. وهنا يمكن القول إنه علي العكس من جمود إيران في التعامل مع تحدياتها الداخلية مثل تمرد الشباب وتحركات المعارضة وضغط الأزمة الاقتصادية، فإنها بدت أكثر مرونة في تحركاتها الخارجية لامتصاص أثر الصدمات النابعة من البيئتين الدولية والإقليمية. والسبب في هذا الاختلاف ما بين الجمود في مواجهة الداخل والمرونة في مواجهة الخارج، يرتبط بأن التحديات النابعة من هذين المصدرين لها طبيعة مختلفة وكذلك فإن توازنات القوة مختلفة .ففي الداخل يعد الحفاظ علي استمرار النظام مسألة بالغة الحيوية، ويبرر ذلك من وجهة نظر المرشد والنخبة عدم التهاون مع أي شكل من أشكال المعارضة، وعندما يفعل النظام ذلك فإنه يطمئن إلي أنه أقوي من المعارضة بما لايجعله مضطرا لإحداث تغيير أو تقديم تنازل. أما مع الخارج فإن الوضع مختلف، وذلك أن إيران واجهت تحديات جسيمة وكبيرة من البيئة الخارجية لم تترك لها في التعامل معها سوي خيارين اثنين، إما الجمود وبالتالي الانكسار وإما المرونة والانحناء للعواصف حتي تمر، والأمثلة علي ذلك عديدة: قبول قرار وقف إطلاق النار مع العراق بعد الاستنفار الإقليمي والدولي ضد إيران، والقبول بالمثالثة في سوريا مع روسيا وتركيا خضوع لتوازنات القوة بل والغضب النبيل من ضرب إسرائيل مواقع إيرانية في سوريا بموافقة روسية لأنه يصعب التضحية بالعلاقة مع روسيا، والتفاوض مع حركة طالبان التي حاربتها إيران في أفغانستان لأن طالبان تواجه داعش وداعش أخطر من طالبان. مثل هذه المرونة الكبيرة في التجاوب مع التحديات الخارجية حافظت علي الجمهورية الإسلامية رغم كل ما واجهته من تهديدات علي مدى أربعين عاما، وأتاحت لها تعظيم فوائدها من كل الفرص المتاحة. استفادت إيران من التنافس الأمريكي - الروسي علي الشرق الأوسط وعوّلت علي روسيا في استكمال برنامجها النووي الذي كان قد توقف أثناء الحرب مع العراق. وعندما طوّرت إيران بعض أجزاء برنامجها النووي بعيدا عن عيون العالم بما في ذلك روسيا نفسها أدركت حجم الخطر الذي يمكن أن يتهددها في حالة ما إذا استمرت في العناد ومواجهة العالم بأسره، ومن هنا قبلت إيران التفاوض مع الشيطان الأكبر والشياطين الأخري الصغيرة لكنها حصلت من العملية التفاوضية الشاقة والطويلة علي أقصي ما يمكن الحصول عليه في حدود المتاح والممكن. ومع أن خروج الولاياتالمتحدة من الاتفاق النووي أضرّ إيران اقتصاديا بالتأكيد، وهذا الضرر ممتد وقد يتفاقم، إلا أن اختلاف الولاياتالمتحدة مع الاتحاد الأوروبي حول الموقف من الاتفاق النووي أعطي إيران مساحة جيدة من حرية الحركة، وهذه الحرية لم تكن متاحة حين توحد العالم ضد برنامجها النووي قبل عام 2015. إن السؤال عما إذا كانت إيران دولة مبادئ أم دولة مصالح سؤال لا معني له، فلا توجد دولة في العالم تقيم سياستها الخارجية علي المبادئ وحدها حتي لو كان لدي هذه الدولة تمثال للحرية علي أرضها. يبحث الجميع عن مصالحهم، لكن البراعة هي في كيفية تسويق هذه المصالح وإلباسها لباسا قيميا أخلاقيا، وهذا قد يكون ممكنا أحيانا وأحيانا أخري يكون غير ممكن. وكمثال فإن إيران قسمّت العالم إلي مستكبرين ومستضعفين، واستطاعت في حالات معينة أن تتلاعب بتعريف كل فريق لتوجد مبررا أخلاقيا لسياستها الخارجية، ومن قبيل ذلك أن إيران اعتبرت المعارضة البحرينية معارضة مستضعفة يجب في الحد الأدني دعمها إعلاميا ودبلوماسيا، لكنها في المقابل وضعت كل المعارضة السورية المسلحة في سلة واحدة باعتبارها مدعومة من قوي مستكبرة تتآمر علي سوريا، ومثل هذا التكييف السياسي لوضع المعارضة السورية أضفي شرعية أخلاقية علي مشاركة إيران في محاربتها. لكن في حالة علاقة إيران مع الصين مثلا، فإن من الصعب تجاهُل وضع مسلمي الإيغور كجماعة مستضعفة تستحق الدعم والمساندة ، لكن هناك شبكة كبيرة من المصالح مع الصين في مجلس الأمن وفي المجال التجاري وصفقات السلاح، وهذه المصالح تستوجب التريث قبل أي تصعيد مع الصين. في الذكري الأربعين للثورة الإسلامية يمكن القول إن إيران استطاعت أن تفرض نفسها كلاعب أساسي في منطقة الشرق الأوسط بفضل قدرتها اللامحدودة علي المناورة ومهارتها التفاوضية، فضلا عن تطوير إمكاناتها الدفاعية. أما عن حصاد دورها الإقليمي فيمكن القول إن هذا الدور كانت له إيجابياته فيما يتعلق بمواجهة إسرائيل علي الساحتين الفلسطينية واللبنانية وفي ترشيد الجموح العثماني خصوصا بعد الربيع العربي، لكن هذا الدور كانت له أيضا سلبياته فيما يتعلق بالتدخل في صميم الشئون الداخلية للدول العربية وإذكاء سياسة المحاور والتمدد داخل الأراضي العربية. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد