أثارت التطورات التكنولوجية الحديثة العديد من التساؤلات عن مستقبل النقود, وما إذا كانت سوف تستمر بنفس أشكالها الحالية، أم أن المستقبل يحمل فى طياته اختفاء الأشكال الحالية للنقود لتفسح المجال للعملات الرقمية وأثر مثل ذلك التحول، فمنذ بدء ظهور العملات المشفرة منذ عشر سنوات ظهر خلال تلك الفترة عدد من تلك العملات أشهرها البيتكوين التى تتصف أساسا بأنها غير مصدرة من أى من البنوك المركزية, بل يتم تخليقها باستخدام برامج حاسب آلى معقدة تعتمد على تكنولوجيا جديدة تسمى البلوكتشين ليس لها وجود مادى محسوس بل توجد فقط فى السجلات الرقمية التى توفرها تلك التكنولوجيا ويمكن نقلها من حائز لآخر لحظيا ومباشرة دون اللجوء إلى وسيط, مع عدم إمكان معرفة حائزيها, وهى الصفات التى رأى أنصارها أنها تخطو بالاقتصادات خطوة كبيرة نحو الاقتصاد عديم النقود وتوفر آلية جديدة لنقل الأموال لحظيا وبدون تكاليف تقريبا، وقد دفع ذلك البعض إلى اقتنائها إيمانا بأنها تمثل نقود المستقبل، وبالتدقيق فى المزايا المتصورة وفى شكل الاقتصاد والأسواق فى غياب النقود بشكلها الحالى يتبين أن الاقتصادات والأسواق قد خطت بالفعل خطوات واسعة نحو العمل بدون النقود الورقية والمعدنية، وأن العمل يتم بالنقود الإلكترونية، وهى القيم المخزنة إلكترونيا على وسائط مثل أجهزة الحاسب أو البطاقات لتنقل الأموال حاليا من حائز إلى آخر بصورة لحظية ودون تدخل بشرى وبتكاليف منخفضة نسبيا وبين الأفراد والمؤسسات والدول بسلاسة تامة وبدرجة عالية من الأمان باستخدام الوسائل الإلكترونية المتوافرة. وما يراه مؤيدو العملات الرقمية ميزة تتمثل فى توفير السرية الكاملة لحائزيها والعمليات التى تتم بواسطتها فهى فى حقيقتها عيب كبير نظرا لإمكان تمويل الأنشطة الخارجة على القانون كتجارة المخدرات والأنشطة الإرهابية دون إمكان اكتشافها أو تتبع القائمين بها، وبالمثل فإن عدم إمكان تدخل البنوك المركزية للتأثير عل سعرها ليس ميزة ويمكن أن يكون له تبعات اقتصادية خطيرة، فبحكم أنها غير مصدرة من أى من البنوك المركزية فليس بإمكانها التدخل باستخدام الأدوات المتاحة لها لضبط أسعارها ومنع أو وقف تدهور قيمتها, سواء كان ذلك ناتجا من تغير طبيعى كالدورة الاقتصادية أو تغير ناتج من المضاربة، و تعنى هذه الخاصية أيضا أنها تفتقد المقوم الأساسى للقيمة. كما أن خصائص النقود المصدرة من البنوك المركزية وتعطيها قيمتها لا تتوافر بأى من العملات المشفرة, وهو الأمر الذى يجعل قيمتها قابلة للانخفاض حتى الصفر (شهد سعرالبيتكوين بالفعل انخفاضا حادا بلغ 65% خلال شهر واحد أوائل عام 2018). إن الاتجاه نحو الاقتصاد عديم النقود الملموسة يجرى بالفعل وبشكل مطرد باستخدام النقود الإلكترونية ودون الحاجة إلى العملات المشفرة وأن قيمة العمليات التى استخدمت فيها الأخيرة تكاد لا تذكر بالمقارنة بحجم العمليات الهائل بالأسواق وأن نجاح تلك العملات فى اجتذاب شريحة من المتعاملين وقدرتها على إتمام بعض العمليات لا يمثل نجاحا حقيقيا فى القيام بوظائف النقود كاملة، فنجاح السجائر فى القيام بدور النقود داخل السجون لا يعنى أنها قد أصبحت نقودا بالفعل، وأن عمل الاقتصاد بكفاءة واستمرار التجارة والمعاملات بسلاسة يتم باستخدام النقود بشكلها الحالى وسوف يستمر ذلك فى المستقبل مع انكماش نسبة استخدام النقود الحسية وارتفاع نسبة استخدام النقود الإلكترونية، ولا يحول ذلك دون الاستفادة من الابتكارات التكنولوجية فى مجال نقل الأموال خاصة تكنولوجيا البلوكتشين ولكن دون تحول النقود إلى الشكل الحالى للعملات الرقمية التى لا تعدو كونها مجرد فقاعة وإساءة استخدام لما توفره التكنولوجيا الحديثة، فالاستفادة من التكنولوجيا تتحقق بوضعها فى موقعها الصحيح كخادم للعمليات التى يتطلبها أداء الاقتصاد وليس تسليمها زمام القيادة وتجاوز الأصول الفنية فى العمل المصرفى والاقتصاد بصفة عامة فتلك ليست وظيفة التكنولوجيا وضد طبيعتها، ومكلف الأشياء ضد طباعها كمتطلب فى الماء جذوة نار. لمزيد من مقالات ◀ جمال وجدى