يتناول البعض العديد من القضايا والمشكلات التى تعانيها مصر بمعزل عن الجذور والأسباب الحقيقية لها. وترتبط هذه الجذور والأسباب بالمحددات الاساسية التى تسيطر على الخطاب الفكرى المصرى والتى أرى أنها فى حاجة إلى مراجعة شاملة ورؤية جديدة وبالتالى فهناك أسباب وظواهر مؤكدة تحتم تكاتف الجميع نحو الدخول فى عملية شاملة لتجديد الخطاب الفكرى منها ما يلى: -الخلط الواضح بين الدين والسياسة, فالدين ينظم العلاقة بين الانسان والخالق العظيم كما ينظم العلاقة بين الانسان والآخرين بما يحويه من عقائد وعبادات وفقه, والقوة الروحية والقيم الأخلاقية المستمدة من الاصول الصحيحة للدين لها دور كبير فى اسعاد الانسان وخلق حالة فريدة من التوازن العقلى والنفسى لدى البشر. أما السياسة فهى تقوم على كل ما هو متغير من افكار ونظم سياسية تختلف باختلاف الزمان والمكان والموقف وبالتالى فإن محاولة البعض الخلط بين الدين والسياسة تشكل تضليلاً واضحاً وإهدارا لقيمة ومنزلة الدين وإحداث اضطرابات سياسية لا معنى لها. -التفرقة فى المعاملة بين الناس حسب الديانات وليس وفقاً لمعايير الكفاءة والنزاهة والقدرة على العطاء. وهذا أمر يحقق انعدام تكافؤ الفرص وينشر الاحباط بين مختلف فئات المجتمع. -جنوح العديد من التفاسير وقراءات الفقهاء وعلماء الدين إلى الانغلاق والتزيد وربط المعانى والافكار بالنظم السياسية القائمة وقت كتابة التفسير أو التحليل... ولعل المرء يقع فى حيرة بالغة عندما يشعر بالراحة النفسية والرحابة الفكرية عندما يقرأ بتمعن القرآن الكريم... ولا يشعر بذلك أبداً عندما يتجه نحو بعض كتب التفسير والتحليل. -كانت مصر دائماً رمزاً متوهجاً للوسطية والاعتدال الفكرى وكان المنتج الثقافى متألقاً فى جوانبه الأدبية والفنية بشكل يحقق التوازن بين كل الأطياف والاتجاهات... إلا أنه فى العشرين سنة الأخيرة لاحظنا جميعاً الميل الحاد إلى الانغلاق الفكرى والتفسير الضيق للنصوص ومحاربة الثقافة الحقيقية بدعاوى مختلفة غير موضوعية. -الانفصام التام بين الاعتقاد والسلوك ... فالكثيرون منا يضعون هذا الحائط العالى بين الانفلات السلوكى والانهيار الاخلاقى فى المعاملات من ناحية والالتزام الشديد فى العبادات من ناحية آخرى. -تقوم نظم التعليم فى مصر على الحفظ والتلقين بعيداً عن الابتكار وإعمال العقل مما يساعد على انتشار الافكار الظلامية والتى لا تجد أى مقاومة عند الانتقال من جيل إلى جيل ناهيك عن وجود عدد لا يستهان به من المعلمين ممن يعانون مشكلات نفسية واجتماعية وثقافية ومادية تحقق مبدأ أن فاقد الشىء لا يعطيه. سردت بعض الاسباب والمظاهر التى تؤرقنى شخصياً وتستدعى ضرورة البحث والتفكير فى عمل منظم خلاق لتجديد الخطاب الفكرى للمجتمع المصرى بما يحقق إعادة صياغة الشخصية المصرية وإعادة ترتيب أولويات العقل الجمعى مما يساعد على تحقيق الانطلاقة المطلوبة والتى بدأت بالفعل نحو عودة مصر كقوة اقليمية مؤثرة فى محيطها العربى والدولى وهى مهمة ليست سهلة لكنها تحتاج إلى إرادة واعية وفكر ثابت ونفوس ممتلئة بالأمل فى المستقبل. مهمة تجديد الخطاب الفكرى فى مصر ترتبط بنظم التعليم ومنظومة الاعلام والثقافة كما لا يمكن إغفال دور الاسرة والمؤسسات الدينية فى هذا الامر... وإذا تحدثنا عن دور نظم التعليم فى تجديد الخطاب الفكرى فلابد بداية من مراعاة عنصر التوقيت الزمنى لهذه المهمة الجليلة حيث وصلنا إلى مرحلة لا تحتمل التأخير أو التأجيل حيث يشكل التعليم عنصراً أساسياً فى تشكيل عقل ووجدان المواطن وذلك بما يبثه من قيم ومبادئ ومعارف تنير العقل وتهذب السلوك وترقق المشاعر. بدأت مصر فى تطبيق منظومة جديدة للتعليم ومن المفترض أن ترتكز تلك المنظومة على صياغة استراتيجية جديدة للتعليم فى المرحلة الابتدائية أخطر وأهم مراحل التعليم تقوم على غرس حب التعلم والقراءة والاعتماد على الذات وهذا يستدعى تخليص المناهج من الاطالة والحشو والمعلومات غير المفيدة مع التركيز على تنمية مهارات الاتصال والتفاعل مع الآخرين والتفكير الابداعى المنظم مما يحقق للطفل فى هذه المرحلة أقصى درجات المتعة والإفادة. تلعب الأنشطة المدرسية دوراً مهما فى تنمية شخصية التلميذ والارتقاء بوجدانه مع مراعاة أن تخطيط وتنفيذ هذه الأنشطة يجب أن يوجه لإسعاد وإمتاع التلميذ لا أن تتحول إلى عقاب بدنى وأذى نفسى حيث تركز أحياناً إدارة المدرسة على إقامة حفلات ومهرجانات لكسب رضا المسئولين بعيداً عن أى فائدة تتحقق للتلميذ. لا يمكن إغفال دور المعلم فى تجديد الخطاب الفكرى لدى طلابه خصوصاً إذا كان هذا المعلم فى حاجة إلى من يراجع ويصحح له العديد من المفاهيم والقيم والمبادئ وهنا يأتى دور التدريب والتأهيل المستمر للمعلمين على مختلف المستويات بحيث نصل إلى المعلم المؤهل ثقافياً وتربوياً ونفسياً ليكون قدوة للطالب ويكون دعماً له فى رحلة البحث عن العلم والمعرفة والاخلاق. حدث تطور كبير فى طرق وأساليب التعليم فتصميم المنهج الدراسى أصبح علماً شديداً التعقيد، كما أن إعداد الكتاب المدرسى أصبح مهمة المتخصصين ونحن فى مصر فى أشد الحاجة إلى ثورة حقيقية فى مجال المناهج والكتب الدراسية بحيث نتحول من واقع تعليمى يقوم على حفظ واسترجاع المعلومات إلى واقع آخر نحلم به يقوم على التفكير والتحليل والربط بين العناصر تمهيداً للوصول إلى مرحلة الابداع والابتكار والتجديد. تناول الكثيرون مشكلات التعليم فى مصر مع إغفال عنصر مهم وهو إدارة المؤسسة التعليمية والتى تلعب دوراً مهما فى استغلال الموارد المادية والبشرية المتاحة لتحقيق أهداف منظومة التعليم فى المجتمع... وهنا يجب أن نبحث عن وسائل جديدة لتقييم أداء تلك المؤسسات بحيث تشكل نتائج عملية التقييم أحد أهم العوامل المؤثرة فى المخصصات المالية الخاصة بكل مؤسسة تعليمية ومن الافضل أن يشترك الطلاب والمدرسون وأولياء الأمور فى عملية التقييم حتى تحقق الحد الأدنى من الرضاء المجتمعى لأداء هذه المؤسسات. إن وجود نظام واحد للتعليم يخضع له الجميع هو نقطة البداية الصحيحة نحو إعادة صياغة العقل المصرى وتجديد الخطاب الفكرى. رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب لمزيد من مقالات د. حسين عيسى