منذ دخلت اللغة العربية مصر، وهى فى صراع لم يهدأ حتى اليوم. فى القرون التى تلت دخول العرب مصر كان صراعها مع اللغة القبطية، وهو صراع استمر أكثر من ستة قرون، وبعد أن تغلبت على اللغة القبطية، دخلت فى صراع مع نفسها، لأن اللغة العربية لم تكن صورة واحدة، كما نعرف، وإنما هى صور مختلفة، أعنى أنها لهجات متعددة ارتبطت بفئات وطبقات وقوى سياسية واجتماعية وثقافية، وتأثرت بما كان فى مصر، وبما طرأ عليها من تطورات وتحولات، وأصبحت لهجتين مختلفتين: الفصحى وهى اللغة المثقفة المتمثلة فى التراث العربى الإسلامى، والعامية، وهى لغة الحياة اليومية التى تبلورت فيها لهجات القبائل العربية وتأثرت بالقبطية وحلت محلها ودخلت مع الفصحى فى صراع اشتد فى هذا العصر الحديث. فى هذا العصر انهارت السلطنة العثمانية التى استندت للدين وحلت محلها فى مصر، وفى غيرها الدولة الوطنية التى وجدت فيها العامية من يتعصبون لها ويرونها تعبيرا عن الهوية المصرية تستحق به الرعاية والتشجيع، ومنهم من أعلن الحرب على الفصحى ونادى بأن تحل العامية محلها. غير أن التطورات التى عرفتها مصر فى هذا العصر واستند لها أنصار العامية فى حربهم المعلنة على الفصحى هى ذاتها التى يستند لها أنصار الفصحى فى حربهم المعلنة على العامية ودعوتهم للتخلص منها. الدولة الوطنية الحديثة التى تمثل المصريين وتتحدث باسمهم وتدافع عن مصالحهم هى التى يستند لها أنصار العامية فى دعوتهم لها، لكن هذه الدولة الحديثة... لا يمكنها أن تقوم أو تؤدى وظائفها الا بلغة مكتملة قادرة على أن تحيط بثقافة العصر، وتشارك فى إنتاجها، وإذا كان باستطاعة العامية أن تحيا وتعبر عن نفسها فى الدولة الوطنية، فالدولة الوطنية لا تستطيع أن تستغنى عن الفصحى فى أداء وظائفها. وبقدر ما تحتاج العامية للدولة الوطنية بقدر ما تحتاج الدولة الوطنية للفصحى. معنى هذا أن اللهجتين حيتان، وأن الصراع مستمر، لكن بدلا من أن يكون هذا الصراع خناقا ومقاطعة علينا، أن نجعله سباقا ومنافسة، وقد رأينا من تجاربنا الماضية أن الازدهار يعدى، وأن التراجع يعدى أيضا. منذ تولى محمد على السلطة فى مصر وبدأ مشروعه لانتزاعها من أيدى الاتراك أخذت اللغة العربية تستعيد مكانها، وتتوسع فيه، وتضيف إليه ما لم يكن لها من قبل ،لأن محمد على لم يكتف بأن يستولى على السلطة ويواصل الحكم بالطرق التى سار عليها من سبقوه، وإنما قرر أن يخرج مصر مما كانت فيه تحت حكم الأتراك والمماليك ويدفع بها فى العصور الحديثة، وفى هذا المشروع لعبت اللغة العربية الفصحى دورا اساسيا تمثل فى البعثات التى أرسلها إلى عواصم أوروبا، وفى مدرسة الألسن، وفى مطبعة بولاق، وفى نشر الكتب وإصدار المعاجم العربية القديمة والحديثة، وترجمة القواميس من الفرنسية والإيطالية والفارسية والتركية، إضافة إلى ترجمة المراجع العلمية فى الطب والهندسة والكيمياء والطبيعة والجغرافيا والتاريخ والفنون الحربية، ويقول المؤرخون إن التقليد فى ذلك العصر كان يقضى بأن يطبع من كل كتاب ألف نسخة، فإذا علمنا أن تعداد المصريين فى ذلك الوقت كان مليونين ونصف مليون أدركنا أن كل نسخة من كل كتاب كانت مخصصة لألفين وخمسمائة قارئ، فإذا أردنا أن نحافظ على هذا التقليد فى أيامنا هذه أصبح علينا أن نطبع أربعين ألف نسخة من كل كتاب نصدره، وهو ما لا يمكن أن نحلم به، لأننا نعتبر الكتاب مطلوبا ورائجا فى هذه الأيام إذا طبعنا منه خمسة آلاف نسخة ووزعناها. فى هذا المناخ الذى عرفته مصر فى القرن التاسع عشر استطاعت اللغة الفصحى أن تنهض وتستعيد حيويتها شيئا فشيئا، وأن تصبح لغة الصحافة ولغة الدواوين التى كانت لاتزال تستخدم التركية، وأن تكون نهضتها مرتبطة بما تحقق فى كل المجالات حتى فى علاقة محمد على وخلفائه بمصر، وفى شعورهم بالانتماء لها، هذا الشعور بالانتماء عبر عنه سعيد باشا الذى أعلن فى خطبة ألقاها فى مأدبة جمعته بضباط الجيش، وفيهم المصريون وفيهم أتراك وشراكسة أنه مصرى، وأنه يمارس سلطته بدافع من شعوره بالانتماء لمصر والمصريين، يقول: «وحيث إننى أعتبر نفسى مصريا فوجب على أن أربى أبناء هذا الشعب وأهذبه تهذيبا حتى أجعله صالحا لأن يخدم بلاده خدمة صحيحة نافعة، ويستغنى بنفسه عن الأجانب». وكذلك فعل الخديو إسماعيل الذى سار خطوات واسعة فى طريق الاستقلال، غير نظام توارث العرش ليكون أكثر ثباتا واستقرارا، ومكن الحكومة المصرية من أن يكون لها الحق فى سن القوانين وعقد الاتفاقات والمعاهدات التجارية، وأنشأ مجلس شورى النواب الذى تحول إلى سلطة تضع الدستور وتقر القوانين، وتكون الوزارة مسئولة أمامها، لأن المجلس يعتبر «وكيلا عن عموم الأمة المصرية» كما جاء فى المادة الثامنة من الدستور، وربما كانت هذه من المرات الأولى التى ُذكر فيها المصريون فى وثيقة رسمية باعتبارهم «أمة» بالمعنى السياسى الحديث لهذا المصطلح، ومن الطبيعى، وقد اعترف الدستور بأن المصريين أمة وأنهم سلطة أن تكون لغتهم الرسمية هى العربية، وهذا ما نص عليه الدستور فى مادته الثلاثين التى جاء فيها أن «اللغة الرسمية التى يلزم استخدامها فى المجلس هى اللغة العربية». وفى تلك السنوات السبعينيات الأخيرة من القرن التاسع عشر كان محمود سامى البارودى، وحسين المرصفى، ومحمد عبده، وعلى مبارك، وعبد الله النديم، وعائشة التيمورية، يبدأون حركة الإحياء التى لم تزدهر فيها الفصحى وحدها، وإنما ازدهرت فيها العامية أيضا، فى المسرح، والأغنية، والسينما على أيدى بيرم التونسى، وبديع خيرى، ونجيب الريحانى... وربما اجتمعت اللهجتان فى إنتاج الشاعر أو الكاتب كما رأينا عند رامى، وشوقى، فضلا عن بعض الشعراء العرب الذين جمعوا بينهما فى أغنية واحدة كما فعل الشاعر اللبنانى بشارة الخورى فى الكلمات التى غناها عبد الوهاب «يا ورد مين يشتريك». لمزيد من مقالات ◀ بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى