بعد قصف قارب جديد، ترامب يهدد بعمليات برية ضد فنزويلا    اكتمال عقد المنتخبات المتأهلة لثمن نهائي مونديال الشباب بتشيلي    قرآن الفجر في يوم النصر، رائعة الشيخ محمد أحمد شبيب التي بشرت بنصر أكتوبر (فيديو)    استبدليه بالبيض والفول والجبن فورا، استشاري يحذر من اللانشون في ساندويتشات المدرسة    اعرف اسعار الدواجن اليوم الأثنين 6 - 10-2025 في بني سويف    التقديم في اللوتري الأمريكي DV Lottery.. رابط التقديم والشروط الجديدة (سجل الآن)    أسعار مواد البناء اليوم الإثنين 6 أكتوبر 2025    «أون لاين».. كيفية الإستعلام عن فاتورة الكهرباء لشهر أكتوبر 2025    محافظ أسوان يهنئى الرئيس السيسى بمناسبة الذكرى ال52 لملحمة انتصارات أكتوبر    «مريض وحالته صعبة».. نضال الأحمدية تعلق على تسليم فضل شاكر نفسه إلى السلطات اللبنانية    ترامب: لم يتبق أي قوارب قبالة فنزويلا بعد الضربات الأمريكية    قناة عبرية: ناشطة من أسطول الصمود تعض موظفة في أحد السجون الإسرائيلية    إيران تعلن دعمها لأي مبادرة تضمن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني    صحة الإسكندرية: تنفيذ 49 برنامجا تدريبيا خلال سبتمبر لرفع كفاءة الكوادر الطبية والإدارية    «أزمة مع النحاس؟».. وليد صلاح الدين يكشف حقيقة عرض أفشة للبيع (خاص)    موعد امتحانات أكتوبر 2025 للصف السادس الابتدائي وجدول المواد كاملة    انخفاض في درجات الحرارة.. الأرصاد تُعلن حالة الطقس اليوم الإثنين 6 أكتوبر    حبس عاطل سرق هاتف محمول من أحد المحال بأسلوب المغافلة بالقاهرة    حبس المتهمين بإدارة نادٍ صحي لاستغلاله في ممارسة الأعمال المنافية للآداب بمدينة نصر    ارتفاع كبير في عيار 21 بالمصنعية.. مفاجآت في أسعار الذهب والسبائك بالصاغة بعد قرار المركزي    مزيج بين الجريمة والدراما.. موعد عرض مسلسل المحتالون التركي الحلقة 1    «العناني» يقترب من منصب المدير العام الجديد لليونسكو    مدحت صالح يتألق في حفل قصر عابدين بأجمل أغانيه    عيد ميلاد عزيز الشافعي.. رحلة نجاح بدأت من الحلم ووصلت إلى القمة    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الاثنين 6 أكتوبر    لجنة الشكاوى ب"الأعلى للإعلام" تستدعي الممثل القانوني لموقع "الموقع" وتحقق في شكوى هالة صدقي    مسابقة 30 ألف معلم 2025.. «التعليم» تعلن موعد تسليم الشهادات المؤمنة ل الدفعة الرابعة    «زي النهارده».. حرب السادس من أكتوبر 1973    للعام الرابع.. الجامعة البريطانية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي يطلقان برنامج محاكاة قمة المناخ COP30    «زي النهارده».. اغتيال الرئيس السادات 6 أكتوبر 1981    بسبب الأطفال.. مصرع سيدة في مشاجرة بكفر الشيخ    من غير غسيل.. خطوات تنظيف المراتب من البقع والأتربة    «العيش الكتير».. استشاري يكشف عادات يومية تؤدي للإصابة ب أمراض القلب    "كيفية مشاهدة مباراة السعودية والنرويج في كأس العالم للشباب 2025 بث مباشر"    السفارة التركية بالقاهرة تحتفل بالذكرى المئوية للعلاقات بين مصر وتركيا    وزير خارجية الكويت: مجلس التعاون ينظر إلى الاتحاد الأوروبي كشريك أساسي في دعم الاستقرار الدولي    تعادل سلبي يحسم قمة يوفنتوس وميلان في الدوري الإيطالي    ضياء الميرغني: مفيش "نمبر وان" في الفن والجمهور أطلق علي لقب الأسطورة    قرار من النيابة ضد المتهم بالتعدي على آخر في حدائق القبة وبحوزته سلاحان ناري وأبيض    ترامب: فرق فنية تجتمع في مصر لوضع التفاصيل النهائية لاتفاق غزة    البابا تواضروس الثاني يزور إيبارشية أبوتيج وصدقا والغنايم    31 مرشحًا خضعوا للكشف الطبي بالفيوم.. ووكيلة الصحة تتفقد لجان الفحص بالقومسيون والمستشفى العام    بالصور/ مدير امانه المراكز الطبية المتخصصة" البوابة نيوز"..نرفع الطوارئ على مدار 24 ساعة لاستقبال حوادث المواصلات بالطريق الزراعى والدائري..القوى البشرية بقليوب التخصصى لا يستهان بها    هناك من يحاول التقرب منك.. حظ برج القوس اليوم 6 أكتوبر    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 6-10-2025 في محافظة الأقصر    اعرف مواقيت الصلاة اليوم الأثنين 6-10-2025 في بني سويف    وفاة مسن داخل محكمة الإسكندرية أثناء نظر نزاع على منزل مع زوجته وشقيقه    لحظة مصرع عامل إنارة صعقا بالكهرباء أثناء عمله بالزقازيق ومحافظ الشرقية ينعاه (فيديو)    أسعار الحديد فى الشرقية اليوم الاثنين 6102025    تفاصيل الجلسة العاصفة بين حسين لبيب وجون إدوارد    بعد حفله في مهرجان النقابة.. تامر حسني يشارك جمهوره بيان شكر «المهن التمثيلية»    حقيقة الشرط الجزائى فى عقد يانيك فيريرا مع الزمالك    على زعزع يخضع للتأهيل فى مران مودرن سبورت    تيسير بلا حدود.. السعودية تفتح أبواب العمرة أمام مسلمى العالم.. جميع أنواع التأشيرات يمكنها أداء المناسك بسهولة ويسر.. محللون: خطوة تاريخية تعزز رؤية 2030.. وتوفر رحلة إيمانية رقمية ميسّرة لضيوف الرحمن    محمد صلاح ينضم لمعسكر منتخب مصر قبل السفر للمغرب لملاقاة جيبوتى    هل يجوز استخدام تطبيقات تركيب صور البنات مع المشاهير؟.. دار الإفتاء تجيب    مواقيت الصلاه غدا الإثنين 6 اكتوبرفى محافظة المنيا.... تعرف عليها    موعد أول يوم في شهر رمضان 2026... ترقب واسع والرؤية الشرعية هي الفيصل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر الشاعرة
.. وهو حديث ذو شجون

أحب أولا أن أعبر فى هذه الكلمة السريعة عن اعجابى بهذا الشاعر المصرى المتمكن من لغته وأدواته... وهو أمر مفهوم إذا علمنا أن الحسانى حسن عبد الله تلميذ نابغ من تلاميذ الأستاذ العقاد.
والحسانى يعبر فى قصيدته هذه كما فهمت عن رفضه لما يرى أنه فلسفة الخيام التى يجدها فى بعض الرباعيات التى يعبر فيها الشاعر الفارسى عن نزعة أبيقورية تجعله باحثا عن اللذة يعتبرها غاية ويؤثرها على أية غاية أخرى... فضلا عن اعتقاد الشاعر المصرى أن فلسفة الخيام سائدة فى مصر، وأننا فى حاجة لفلسفة أخرى نرجع فيها لضمائرنا لا لحواسنا.
والحقيقة أن الناظر فى رباعيات الخيام يرى أنه لا يعبر فيها عن نزعة واحدة، بل هى نزعات مختلفة، وهذا ينطبق أيضا على المصريين الذين يجب أن نميز فيهم بين إيثار اللذة وحب الحياة، وهى مسألة يمكن أن نفتح حوارا حولها.
أ.ع. حجازى
حين نصل فى حديثنا عن «مصر الشاعرة» إلى العصور الحديثة، وننظر فيما قدمه المصريون للشعر العربى مبتدئين بحركة الاحياء حتى نصل إلى شعراء وقتنا نضع أيدينا على الدور الطليعى الذى أدته مصر لا فى فن الشعر وحده، بل فى كل فنون اللغة العربية، سواء ما كان له أصل سابق فى تراثها القديم كالقصيدة الغنائية والمقامة والمقالة، أو ما عرفه المصريون فى اللغات الأخرى وعرَّبوه ومصَّروه وأدخلوه فى الأدب العربى الحديث كالمسرحية الشعرية والنثرية والرواية والقصة القصيرة.
.............................................
حين نصل فى حديثنا عن «مصر الشاعرة» إلى العصور الحديثة، وننظر فيما قدمه المصريون للشعر العربى مبتدئين بحركة الاحياء حتى نصل إلى شعراء وقتنا نضع أيدينا على الدور الطليعى الذى أدته مصر لا فى فن الشعر وحده، بل فى كل فنون اللغة العربية، سواء ما كان له أصل سابق فى تراثها القديم كالقصيدة الغنائية والمقامة والمقالة، أو ما عرفه المصريون فى اللغات الأخرى وعرَّبوه ومصَّروه وأدخلوه فى الأدب العربى الحديث كالمسرحية الشعرية والنثرية والرواية والقصة القصيرة. ولاشك فى أن هذا الدور الذى أدته مصر إضافة أساسية لم تتح لمصر من قبل وحياة جديدة للأدب العربى لم يعرفها من قبل، لأنها نتاج عصر جديد هبت فيه مصر من رقدتها الطويلة، وعادت اليها روحها الغائبة ووعيها بذاتها وحاجتها الملحة للخروج من سجنها والمطالبة بحقوقها والافصاح عن مشاعرها، والتعبير عن شخصيتها فى مختلف الميادين، وبكل الأساليب والأشكال التى عرفتها فى ماضيها العريق أو تعرفت عليها فى نهضتها الحديثة.
والحديث عن الشعر المصرى فى القرن التاسع عشر حديث ذو شجون، لأن الشعر المصرى فى القرن التاسع عشر لم يكن مجرد نشاط فنى يمارسه الشعراء، وإنما كان وجها من وجوه حركة جديدة شاملة نتلمس طرقها وتكتشف أهدافها ووسائلها فى السياسة والمجتمع والفكر والعمل، ويكفى فى هذا المجال أن نذكر أمثال الطهطاوى، ومحمد عبده، وعبد الله النديم لندرك أن الحديث عن شعر النهضة يستتبعه الحديث عن النهضة كلها.
لقد تغيرت اللغة العربية وانتقلت من حال إلى حال، أو أنها بالأحرى انتقلت إلى أكثر من حال، وهذا ما سبق للحديث عنه معظم الذين تناولوا مصر وشعرها وثقافتها فى القرن التاسع عشر كالدكتور طه حسين فى المقالات التى قدم بها لحديثه عن «حافظ وشوقى» والأستاذ عباس محمود العقاد فى كتابه «شعراء مصر وبيئاتهم فى الجيل الماضى».
والعقاد يشرح هذا العنوان فيقول: «ومعرفة البيئة ضرورية فى نقد كل شعر، فى كل أمة، وفى كل جيل، ولكنها ألزم فى مصر على التخصيص، وألزم من ذلك فى جيلها الماضى على الأخص، لأن مصر قد اشتملت منذ بداية الجيل إلى نهايته على بيئات مختلفات لا تجمع بينها صلة من صلات الثقافة غير اللغة العربية التى كانت لغة الكاتبين والناظمين جميعا، وهى حتى فى هذه الجامعة لم تكن على نسق واحد، ولا مرتبة واحدة لاختلاف درجة التعليم فى انحائها وطوائفها، بل لاختلاف نوع التعليم بين من نشأوا على الدروس الدينية، ومن نشأوا على الدروس العصرية، واختلافه بين هؤلاء جميعا، وبين من أخذوا بنصيب من هذا ومن ذاك».
وفى هذا الحديث عن البيئة الذى بنى عليه العقاد دراسته لشعراء القرن التاسع عشر ما يذكر بالنقد الفرنسى فى القرن التاسع عشر، وخاصة بالمحاولات التى بذلت فى الوصول إلى أسس علمية ومقاييس موضوعية لنقد الأدب يرجع لها النقاد فى تفسيرهم للنصوص الأديبة وتقييمهم لها بدلا من الانطباعات والتقديرات الشخصية التى لا يمكن الاطمئنان لها أو الاتفاق حولها، وفى هذه المحاولات ما قدمه الناقد هيبوليت تين فى تفسير الأدب بما نعرفه عن الأجناس والبيئات والعصور.
ولاشك فى أن العقاد كان موفقا حين استفاد من نظريات تين فى تفسيره للشعر المصرى فى القرن التاسع عشر، لأنه بالفعل نتاج بيئة جديدة لم تعرفها مصر من قبل، وهى البيئة التى خلقتها النهضة، وهى الحياة الجديدة التى عرفها المصريون فى كل مجالات حياتهم، هذه المجالات المختلفة التى كان لابد أن تتواصل، وأن يتأثر بعضها ببعض لأن الروح عادت إليها، وهى ليست روحا عائدة فحسب، وإنما هى أيضا متجددة اتصلت بالعصور الحديثة، وتبنت أفكارها ومبادئها، فأصبحت تمجد العقل وتندد بالخرافة، وتطالب بالديمقراطية والدستور، وتلعن الطغاة والمستبدين وتثور ضدهم، وتخرج فى هذا النضال الذى انخرطت فيه من معركة لتدخل معركة جديدة، وتستخدم فى هذه المعارك المتواصلة خبراتها وتجاربها وأدواتها القديمة والجديدة، المدارس والمساجد والكنائس والصحف، والتنظيمات السياسية السرية والعلنية، والكتب المطبوعة والمخطوطة المؤلفة والمترجمة، وفى هذا كله لعبت اللغة دورا فعالا حاولت فيه أن تتخلص من أمراضها الموروثة، وأن تستعيد حيويتها وكفاءتها السابقة، وأن تكتسب كفاءة جديدة تتمكن بها من أداء وظائفها المتعددة، ومن هنا كانت انساقها المختلفة ومراتبها التى أشار إليها فيما سبق طه حسين والعقاد.
فى القرون التى سبقت النهضة كانت الحياة راكدة والأيام مكرورة والأعمال هى هى.. وفى هذا المناخ تسود الرتابة وتحل العادة محل الاجتهاد، ويصبح البشر نسخا مكررة وتتراجع الحاجة للتفكير وتتسع المسافة الفاصلة بين لغة الحياة اليومية ولغة الثقافة إلى الحد الذى يمكن أن تتعرض فيه هذه للموت، كما حدث للغة اللاتينية التى هجرها الايطاليون والفرنسيون والأسبان والبرتغاليون إلى لهجاتها الدارجة التى انفصلت عن أصلها فى عصر النهضة الأوروبية وحلت فى كل المجالات محل اللاتينية بعد أن صارعتها وتغلبت عليها.
نحن نعرف على سبيل المثال أن الشاعر الإيطالى الشهير دانتى اليجييرى الذى عاش فى القرن الثالث عشر الميلادى، وتزعم حركة النهضة الأدبية فى بلاده بدأ نشاطه الأدبى مترددا أو متنقلا بين اللاتينية الفصحى ولهجاتها الإيطالية الدارجة كتب روايته «الحياة الجديدة» التى صور فيها فيها حبه لبياترتشى بلهجة توسكانا العامية، وحين بدأ العمل فى ملحمته «الكوميديا الالهية» استخدم اللايتينية فى بعض أناشيد «الجحيم» قبل أن يستقر على نظمها بالعامية! وليس غريبا أن يستخدم اللاتينية فى كتابة عن «اللغة العامية» وفى كتاب أخر عن السلطة سماه «الملكية» لأن فى هذه المؤلفات الفكرية كان فى حاجة للغة واضحة مثقفة، أما فى الشعر فالعامية كانت أقرب إليه، وإلى الحياة وأصدق فى التعبير عن تصوراته وانفعالاته، والذى نعرفه عن دانتى نعرفه عن رفيقيه بترارك وبوكاشيو.
والذى حدث فى إيطاليا بين اللاتينية ولهجاتها الدراجة حدث مثله أو قريب منه فى فرنسا، اللاتينية التى كانت لغة الامبراطورية الرومانية ظلت بعد انهيار الامبراطورية، وانفصال فرنسا، وقيام مملكتها لغة الكنيسة الكاثوليكية والنشاط العلمى والفلسفى، على حين أصبحت لهجتها الفرنسية الدارجة لغة رسمية للمملكة تعبيرا عن استقلالها ودعما لمكانتها فى أوروبا، وحتى أوائل القرن الماضى كانت اللاتينية مادة مقررة على طلاب الفصول الأدبية فى المدارس الثانوية يؤدون فيها امتحانات وتعقد لهم مسابقات فى الكتابة ونظم الشعر بها، لكنها لفظت أنفاسها الأخيرة فى القرن الماضى، فلم تعد تستخدم إلا فى بعض النشاط الكنسى. هذا المصير الذى انتهت إليه اللاتينية فى صراعها مع لهجاتها الدارجة نجت منه العربية الفصحى رغم الصراع العنيف الذى لايزال دائرا بينها وبين العامية.
العربية الفصحى هى لغة النهضة المصرية الحديثة دون أدنى شك لأن المصريين فى صراعهم مع المستعمرين الأوروبيين من ناحية، ومن ناحية أخرى مع الغزاة العثمانيين الذين كانوا يحكمون مصر باسم الاسلام ويستخدمون لغتهم التركية فى إدارة امبراطوريتهم المصريون فى هذا الصراع السياسى المتعدد الجبهات كانوا فى حاجة للفصحى يستنهضون بها همهم ويدعمون بها استقلالهم، لأن الفصحى هى لغة الثقافة العربية الإسلامية، ولأن علاقتها بالاسلام والثقافة تحصنها فى مواجهة المستعمرين الأوروبيين وتجعلها سلاحا ماضيا فى الصراع مع الاتراك ومع لغتهم، ولأن المصريين فى سعيهم للخروج من عصور الظلام والانحطاط كانوا فى حاجة للغة مثقفة لهم معها تاريخ ولهم فى تراثها الفكرى والأدبى مكان، وتستطيع بها الدولة المصرية المستقلة أن تبنى مؤسساتها الحديثة وتدير شئونها وتؤدى دورها فى المنطقة وتتصل بالثقافات الأوروبية المتقدمة عن طريق الترجمة، وهذه المعطيات استطاعت الفصحى لا أن تحافظ على حياتها التى كانت لها فى الماضى، بل أن تحيا فى الحاضر حياة جديدة دخلت فيها ميادين لم تدخلها من قبل، واكتسبت طاقات وخبرات، وأثبتت كفاءتها فى تزويدنا بما نحتاج إليه فى هذا العصر، وأنجزت فى الأدب أعمالا نالت بها اعتراف العالم وتقديره. لكن هذه الحياة الجديدة التى اكتسبتها الفصحى لم تمنع العامية من أن تواصل هى الأخرى حياتها، وتكتسب طاقات وتنجز أعمالا شاركت بها الفصحى، وأثبتت فيها جدارتها، وقد أصبحت العامية المصرية تراثا وطنيا نعتز به، ولم تعد مجرد وسيلة للتفاهم فى النشاط اليومى، وإنما دخلت هى الأخرى ميادين الثقافة، وأنتجت أعمالا مرموقة فى الشعر والأغنية والمسرح والسينما، وفى ضوء هذه الحقائق ننظر فى واقعنا اللغوى والثقافى، ونعرف ما الذى يجب أن نقوم به لإصلاح الفاسد وتصحيح المعوج فى تعليمنا وثقافتنا وإعلامنا، وفى تزويد حياتنا بما يلزمها، ويمكنها من النهوض بما نطلبه من حياتنا، ونحلم به فى هذا العصر الذى نعرف أن كل شيء فيه مرهون بالمعرفة والعلم والوعى والقدرة على الاتصال بالعالم واكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها والحوار والتعاون مع الأخرين.
فى ضوء هذه الحقائق نقول ان الفصحى فى مصر لن تقضى على العامية كما قد يتمنى البعض، وإن العامية لن تقضى على الفصحى، كما تخيل أخرون ظنوا أن القوانين التى مكنت اللهجات الأوروبية الدارجة من القضاء على اللاتينية تفعل عندنا ما فعلته عند الأوروبيين لا، لأن التاريخ ليس واحدا، والمعطيات التى فرضت نفسها هنا غير المعطيات التى فرضت نفسها هناك، والقوانين كما يجب أن نعرف لا تعمل بمعزل عن الإنسان، وإنما تعمل بمعرفته وبواسطته وبارادته.
فإذا كنا قد استكشفنا طريقا إلى الشعر المصرى فى القرن التاسع عشر ووضعنا أيدينا على الحقائق التى أحاطت به، وعلى القوانين التى حكمته أو على ما نعتبره أساسيا منها فبوسعنا الآن أن ننظر فى هذه الشعر لنرى كيف تصارعت فيه اللهجات وتراوحت المستويات وتعددت الأغراض والأشكال، وأجتمع شعراء البوادى مع شعراء الحواضر، وشعراء العرب مع شعراء اللغات الأخرى، وكيف تحقق للمصريين أن يقوموا بما قاموا به فى الشعر العربى الحديث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.