منذ أكثر من سنتين قررت أن أتفرغ للبحث فى التاريخ الثقافى والتنقيب عن محاولات الإصلاح والتجديد الثقافى منذ نشأة الكيانات الثقافية الحديثة بالعالم العربى بحثاً عن حلول لأزمة الثقافة العربية، وكانت البداية فى رأيى من الحدث الأكبر فى حياة المثقفين وهو معرض القاهرة الدولى للكتاب أحد أبرز الأحداث الثقافية العربية لما يتمتع به من أهمية وجماهيرية شعبية كبيرة. وقد تم افتتاح المعرض يوم 22 يناير 1969 وبالمناسبة فهذا هو نفس اليوم الذى تم اختياره ليكون يوم افتتاح المعرض فى 22 يناير 2019 - واستمر المعرض ثمانية أيام، واشترك فيه 46 ناشراً يمثلون 32 دولة من أوروبا وأمريكا وآسيا والدول العربية. والمعلومات عن يوم الافتتاح قليلة فى المصادر والمراجع، ولكن تبقى شهادة المفكر الكبير الدكتور فؤاد زكريا عظيمة فى هذا الشأن. ................................... يحكى فؤاد زكريا فى مقال له بعنوان (بين معرض ومؤتمر) نشر بمجلة الفكر المعاصر فى عدد فبراير 1969 عن انطباعاته ورؤيته فى اليوم الأول للمعرض فيذكر «كان يوم الافتتاح مكفهر الجو منهمر المطر شديد البرودة، وكنت أحسب وأنا مدعو إلى يوم الافتتاح أننى لن أجد إلا نفراً قليلاً من المتجلدين الذين لن يملكوا بسبب أو لآخر أن يرفضوا الدعوات الموجهة إليهم لحضور الافتتاح. بل لقد بلغ بى التشاؤم حدا ظننت معه أننى قد أعود بعد دقائق من حيث أتيت وأن الافتتاح قد يؤجل إلى وقت آخر أنسب، فى جو أفضل». هكذا يحكى مفكرنا العظيم عن الانطباع الأول يوم الافتتاح لهذا المعرض الذى سنحتفل فى عام 2019 بالذكرى الخمسين لافتتاحه، ولكن سرعان ماتبدد هذا الانطباع ليثبت للجميع أن هذا الشعب يبهر الجميع دائماً بثقافته وعلمه. يكمل الدكتور فؤاد زكريا «وما أن اقتربت من أبواب المعرض حتى شاهدت ما لم أكن أتوقع ومالم يكن يتوقعه أشد الناس تفاؤلاً بنجاح هذا المعرض». كانت قاعات العرض وأركانه محتشدة بآلاف من المثقفين الذين لم يكن معظمهم على الأرجح - ولكنه آثر المغامرة بحضور الافتتاح بلا دعوة، كيلا يفوته هذا الحدث العظيم، وكانت أرجاء المعرض الفسيحة غاصة بشبان وشيوخ وفتية وفتيات يتزاحمون حول رفوف العرض حتى لايكاد يدفع بعضهم بعضاً وهم متراصون أمامها لايريدون أن يفوتهم منها شىء. وعن نتيجة الزيارة الأولى والأيام التالية يضيف المفكر الكبير «لم أستطع فى زيارتى الأولى أن أتم إلا قدراً يسيراً من ذلك العمل الذى كنت قد قدرت له دقائق معدودة، وكان لابد لى أن أعود يوماً آخر. وحرصت فى اختيارى لليوم وساعات الزيارة، بل وحالة الجو، أن تكون من الأوقات التى يقل فيها إقبال الناس على معرض كهذا إلى أدنى حد ممكن، ولكنى فوجئت بنفس الازدحام، وبنفس التهافت على مشاهدة كل أركان المعرض، ونفس الكتل البشرية الهائلة التى تتلهف شوقاً إلى العلم». ويضيف «ثارت فى نفسى مشاعر فرح عميق: كنت مبهوراً بوجود الآلاف الكثيرة من المثقفين المتعطشين إلى مزيد من العلم والمعرفة، حتى ليتجشمون فى سبيل ذلك أشد العناء فى أقسى موجات الشتاء برودة واغزرها مطراً، ويتنازلون عن الكثير من مطالبهم الحيوية فى سبيل دفع مالديهم وربما ما لدى أقربائهم أو أصدقائهم من جنيهات فى آخر أيام شهر هو، بالنسبة إلى الغالبية الساحقة منهم، أشد شهور العام عسراً وإملاقاً. كان مشهداً رائعاً أن يتدافع الآلاف، فى هذه الظروف القاسية، ليدفعوا مقدماً أثمان مؤلفات لن يتسلموها إلا بعد حين، وكنت تستطيع أن تدرك على الفور أن الغالبية الساحقة من هؤلاء إنما اقتطعوا أثمان هذه الكتب من قوتهم الضرورى، وربما من قوت غيرهم أيضاً». وعن موقف المثقفين من المعرض قال «كان شيئاً رائعاً أن يتلاقى المثقفون وهم بطبيعتهم ميالون إلى العزلة والتفرد، فى هذا المكان الفسيح على غير ميعاد، حتى غدا المعرض، فرصة نادرة لكى يلتقى كل من فرقت بينهم شواغل الحياة، وباعدت بينهم أعباء العمل. كانت الآلاف التى تدخل المعرض وتخرج منه طوال أيامه مظاهرة حية، تلقائية، تبعث الطمأنينة فى كل نفس تتوجس خيفة على مستقبل الثقافة فى بلادنا، أو تخشى من أن تكون الأحداث العاصفة قد صرفت الناس عن حب العلم والحرص على التزود بالمعرفة». وهناك شهادة أخرى على افتتاح المعرض من الأستاذ أحمد عيسى رئيس تحرير مجلة الكتاب العربى ونشرها فى افتتاحية عدد أبريل 1969 من المجلة تحت عنوان (على هامش أسبوع معرض القاهرة الدولى للكتاب) ذكر فيها أن أسبوع معرض القاهرة الدولى للكتاب «كان مفاجأة كبرى للزائرين، ومفاجأة أكبر للعارضين، فلم يخطر ببال الكثيرين أن يحظى معرض للكتاب، تغلب عليه الصفة الأجنبية، بإقبال منقطع النظير من أهل القاهرة، ربما لسوء ظن بالقارئ المصرى، واعتقاد بعدم تحمسه لاقتناء الكتاب أو ربما لإيمان بفراغ الجيوب فى أخر شهر الأعياد حيث لابقية تنفق على الكماليات، أو ربما لاعتقاد بأن المعرض سوف لايضم سوى قدر محدود من دور النشر الأجنبية وبالتالى فسوف يكون المعروض محدوداً كماً وكيفا». على أن أبواب المعرض لم تكد تفتح يوم 22 يناير 1969 حتى تقاطر الناس يتزاحمون ويتدافعون ويسألون ويتصفحون ويختارون ويدفعون برغبة ونهم شديدين، واضطرت إدارة المعرض إلى فتح أبوابه للزوار من العاشرة صباحاً إلى السابعة مساء، دون إعطاء فرصة راحة للعارضين لتناول الطعام او حتى للراحة من المناقشة والكلام». استمر معرض القاهرة الدولى للكتاب يؤدى رسالته التنويرية من افتتاحه يوم 22 يناير 1969 وحتى وقتنا الحالى، ونحن نحتفل بعد أيام قليلة باليوبيل الذهبى للمعرض وهى مناسبة مهمة لكل محبى القراءة والكتاب فى مصر والعالم. وقد أضيفت للمعرض العديد من المميزات على مدار تاريخه، فتمت إضافة البرنامج الثقافى والندوات والفاعليات الفنية فى الثمانينيات والتسعينيات، كما تمت إضافة فكرة ضيف الشرف وكانت ألمانيا هى أول ضيف شرف للمعرض. كما تم عمل جائزة لأفضل كتاب فى فروع المعرفة المختلفة، بالإضافة إلى جائزة الناشرين. وأخيراً تشهد الدورة الحالية نقلة جديدة مكانية من أرض المعارض بمدينة نصر إلى أرض المعارض الجديدة بالتجمع الخامس وهو الانتقال الثانى للمعرض بعد أرض الجزيرة وسط ترقب كبير من القراء والمهتمين بشئون الكتاب أملاً فى مستقبل أفضل للمعرض الذى يعد بحق وخلال كل هذه السنوات عيد الثقافة والمثقفين السنوى.