بيت قديم فى قرية صغيرة بإحدى قرى محافظة كفر الشيخ كان شاهدا على كتابة مسودة دستور 1923الذى كان البداية الحقيقية للتحول المفصلى فى تاريخ مصر الدستورى والبرلمانى ويقول عنه خبراء القانون معجزة دستورية، بينما وصفه سعد زغلول بدستور الأمة. قطعت «الأهرام» مسافات طويلة إلى هذا البيت التاريخى أو السرايا كما يطلقون عليه والذى أوشك للأسف على السقوط، وهو عبارة عن دور واحد يتكون من 23 غرفة، وجناح كبير مخصص للمجالس واستقبال كبار الزوار وضيوف الباشا، ويسمى «الدوار» وتحده الأشجار النادرة والفواكه من كل جانب داخل حديقة مساحتها نحو 15 فدانا. وصاحب هذه السرايا كما يدعوه الناس «البيه بسيونى سالم»، كان من أهم أعيان الوجه البحرى ويمتلك نحو 5 آلاف فدان، ويتردد على سراياه كبار الساسة والوطنيين أمثال أحمد لطفى السيد وعبدالعزيز فهمى وأمين الرافعى وإبراهيم الهلباوى. ويوجد المنزل الذى أطلق عليه البعض قلعة الحريات فى قرية كفر سالم التابعة لمحافظة بكفر الشيخ. ............................... فى البداية قابلنا الدكتور محمد السيد سالم أبرز أحفاد أسرة سالم، والذى يوضح أن هذ البيت أشبه ببيت الأمة لأنه شهد أحداثا سياسية كثيرة، وفيه عاش بسيونى بك سالم عمدة قرية كفر سالم منذ قرن مضى، وأولاده محمد بك سالم القاضى بالمحاكم الأهلية، والسيد بك سالم ومبروك بك سالم وهما قاضيان أيضا، وكان محمد بك سالم تجمعه صداقة قوية مع مصطفى النحاس باشا منذ المراحل الدراسية الأولى وحتى مدرسة الحقوق واشترك معا فى مكتب محاماة بمدينة طنطا وتحديدا فى عمارات البواكى الأثرية التى تقع بشارع المديرية المجاور للعارف بالله السيد أحمد البدوى، ثم انضم النحاس لحزب الوفد وأصبح رئيس الوزراء بعد ذلك، وانضم محمد بك إلى الأحرار الدستوريين، ومن أبرز الشخصيات التى كانت تتردد على سرايا سالم المحامى الشهير إبراهيم الهلباوى أحد أعضاء لجنة الثلاثين التى كتبت دستور 23، حيث تربطه بالأسرة علاقة مصاهرة ونسب. ويؤكد الدكتور سالم أن السرايا شهدت كتابة مسودة دستور 1923 والمبادئ العامة للدستور وأقام فيها عدد من أعضاء لجنة الثلاثين مدة 45 يوما ليكونوا فى مكان هادئ بعيدا عن القاهرة وخلال هذه المدة انتهوا من المسودة التى شملها التعديل لتصبح دستورا للبلاد فى 19 أبريل عام 1923. بالعودة إلى محمد على علوبة أحد أعضاء اللجنة يقول فى مذكراته: فى عام 1922 أنشأ عبد الخالق ثروت لجنة من ثلاثين عضوا برئاسة حسين رشدى باشا لوضع دستور يليق بمصر، واختار أشخاص عرفت عنهم الوطنية والكفاءة وتمثيل الهيئات العليا فى البلاد، حسب ما يروى، واقتصرت الدعوة لحزب الوفد التيار الأكثر شعبية فى ذلك الحين على عضوين أو ثلاثة فقط فى ظل أغلبية للحكومة، ما لقى رفض زعمائه المطالبين بأن تضعه جمعية تأسيسية منتخبة وبرأى النواب، ووصفهم سعد زغلول ب « لجنة الأشقياء» غير أن بعض الأعضاء المؤسسين للوفد شاركوا فى وضع الدستور منهم على ماهر، عبد العزيز فهمى، توفيق دوس، عبد اللطيف المكباتى كما ضمت الشيخ محمد بخيت مفتى الديار المصرية، الشيخ عبد الحميد البكرى شيخ الطرق الصوفية، والأنبا يؤنس ممثل الطائفة القبطية، وصالح لملوم ممثل البدو، إلى جانب رجال القانون ومنهم إبراهيم الهلباوى. علينا أن نذكر إنه عام 1876 كان الجد الأكبر محمود بك سالم نائبا بمجلس شورى النواب الذى أنشأه الخديو إسماعيل وشارك الشيخ عثمان الهرميل أول معارض فى التاريخ البرلمانى فى عدة مواقف وطنية أبرزها الاعتراض على قانون المقابلة. فيما يوضح الدكتور أيمن أنور سالم من أسرة سالم، إنه خلال الفترة بين 1921و1922 كانت القضية الشاغلة هى وضع دستور للبلاد كأولى خطوات الاستقلال، واستضاف بسيونى بك سالم فى منزله أعضاء لجنة الثلاثين التى وضعت الدستور وسياسين آخرين حضروا المناقشات ومنهم أحمد لطفى السيد بك، أحمد ماهر باشا، وإسماعيل باشا أباظة وعبد العزيز باشا فهمى، وجبرائيل تقلا صاحب جريدة الأهرام، وأمين الرافعى مؤسس جريدة الأخبار، وإبراهيم الهلباوى وتم وضع المبادئ العامة للدستور. كما يشير من ناحية أخرى إلى أن سرايا بسيونى بك شهدت منافسة بين ولديه محمد بك وبسيونى بك بسيونى، فعندما حالت الظروف دون التحاق الأخير بمدرسة الحقوق أصر على السفر لدراسة الطب بجامعة إدنبرة عاصمة اسكتلندا فى بريطانيا وبذلك أصبح أول طبيب مصرى فى المنطقة بالكامل وذلك عام 1918، بالإضافة إلى البرنس شلبى سالم الذى امتلك نحو 7آلاف فدان، وحاز على اللقب من الأسرة المالكة وهو أعلى من لقب «باشا» وهما ضمن أفراد الأسرة الذين حضروا المناقشات بجانب القاضيين محمد بك سالم والسيد بك سالم، وطرحوا قانون العمد والمشايخ والتعليم والحقوق الدستورية وحقوق الإنسان وحرية الصحافة. ويضيف الدكتور أيمن سالم أن أسرة سالم كانت متمسكة بدستور 1923 وعندما قام إسماعيل صدقى باشا رئيس وزراء مصر آنذاك بإلغائه واستبداله بدستور 1930 قاد جدى زيدان سالم الفلاحين إلى الحقول ورفضوا المشاركة فى الانتخابات عقب دستور30 ما كان عاملا مهما جدا فى إلغائه وإعادة العمل بدستور 23 مرة أخرى. ويتابع أحمد العرينى 79 عاما حارس على سرايا بسيونى سالم قائلا: أثناء قيامى بزراعة حديقة السرايا عثرنا على جدار مهدم لمسجد مجاور، وعرفنا أن أعضاء اللجنة المشاركة فى مسودة الدستور اقترحوا نقل المسجد لمكان آخر وبالفعل تم نقله إلى أرض أخرى من أملاك «البيه بسيونى» حسب قوله.. ويروى أمين الرافعى رائد االصحافة المصرية فى مقالاته بجريدة الأخبار والتى بلغت نحو أربعة عشر مقالا بعنوان «ملاحظتنا على الدستور» عن وضع المبادئ العامة لدستور 1923 «مسودة الدستور» فيقول صدر الدستور بعد أن اشتغلت بوضعه لجان مختلفة وتلقته أيدى ثلاث وزارات متتالية فقد ألف ثروت باشا لجنة الثلاثين فاختارت هذه اللجنة ثمانية عشر من أعضائها تولوا وضع المبادئ العامة للدستور، ثم عرضت أعمالها على اللجنة العامة، وبعدها انتقل الدستور إلى اللجنة التشريعية، وجاء نسيم باشا ليتولى مشروع الدستور بالتعديل مشتركا مع ذلك فى اللجنة التشريعية ثم استقال وألفت وزارة يحيى باشا إبراهيم لجنة الخمسة لمراجعة الدستور من جديد، ثم صدر الدستور وليد إرادة الحكومة ولجانها المتعددة.. كما يوضح أن المادة 46 من مشروع لجنة الثلاثين «المسودة» تنص على أن الملك يحلف اليمين أمام هيئة المجلسين مجتمعين قبل مباشرة أمور الحكم، وفى الدستور نفسه تم تعديلها بأن يحلف الملك اليمين أمام المجلسين، مجلس الشيوخ والنواب، قبل أن يباشر حقوقه الدستورية، ما زاد المادة غموضا بخلاف نص المسودة. وفى المادة 59 من المسودة التى وضعتها لجنة الثلاثين وكانت تنص على أن «أوامر الملك شفاهية أو كتابية لا تخلى الوزراء وغيرهم من عمال الدولة من المسئولية»، تم تعديلها وحذفت عبارة «وغيرهم من عمال الدولة» وأصبحت هى نفسها المادة 62 من الدستور الجديد وتنص على أن أوامر الملك شفاهية أو كتابية لا تخلى الوزراء من المسئولية. وهذا النص يعفى غيرهم من المسئولية وفيه عدم مساواة بين كل موظفى الدولة فى تحملهم تبعية ما يفعلون ويعفيهم من العقاب فى سبيل تنفيذ أوامر الملك، وكانت المسودة تنص على أن الصلة بين الملك والوزراء تكون رأسا وبالذات، ولكن الدستور حذف هذا النص مع أن هذه القاعدة من القواعد الدستورية العامة التى لا يجوز المساس بها، والمسودة كانت تقضى بأن يرشح مجلس الشيوخ ثلاثة من أعضائه لرئاسة المجلس يعين الملك أحدهم، ولكن الدستور لم يعبأ بإرادة المجلس وقضى بأن رئيس مجلس الشيوخ يعينه الملك ما يعطيه حقا مطلقا. ويقول الدكتور شوقى السيد الفقيه الدستورى ل «الأهرام» إن دستور 23 دستور فريد من نوعه فهو معجزة بكل المقاييس، ولا يمكن أن نتخيل كم الحريات فى ذلك الدستور رغم مضى مائة عام إلا قليلا على زمانه، فى ظل وجود حكم ديكتاتورى ودولة خاضعة للمحتل، كما حافظ على حرية الصحافة. والصحافة عبرت عن الحياة السياسية قبل أن تنشأ الأحزاب. وأوجد مجلسى الشيوخ والنواب، ومنحهما صلاحيات كاملة وحق اصدار التشريعات وحافظ على الاستقلالية وتوازن السلطات. ويشير الدكتور السيد إلى أن عدد مواد الدستور بلغت نحو 169 مادة، ومن المادة 32 إلى 56 حوالى 24 مادة شملت سلطات الملك، وحينما تم إلغاء دستور 1923 والعمل بدستور 1930 لم يستمر ذلك سوى 4 سنوات وفى عام 1934 تم العودة لدستور 23 مرة أخرى لأنه عبر عن ضمير الشعب على عكس دستور 30 الذى كان مغرقا فى سلامة النوايا.