فى أثناء احتفالات ألمانيا برأس السنة الميلادية 2019.. ظهرت للمرة الأولى ميليشيات تابعة لليمين المتطرف.. تجوب الشوارع. قال رئيس بلديّة أمبيرج لوكالة الأنباء الفرنسية: لقد أبلغت الشرطة عن تشكيل ميليشيات للدفاع الذاتى فى المدينة.. ثم أوضح: أستطيع أن أفهم الشعور بعدم الأمان لدى جزء من السكان.. لكن الحقد والتهديد المتدفِّق من كلِّ أنحاء البلاد.. يتجاوز كلَّ الحدود. نشر الحزب الوطنى الديمقراطى اليمينى المتطرف والقريب من التيار النازي.. صورًا لعددٍ من أعضائه، وهم يرتدون سترات حمراء عليها شعار الحزب. وصفت الصحف «ميليشيات السترات الحمراء» بأنها دوريّات أمنية تابعة لليمين المتطرف.. وخارج مؤسسات الدولة. فى رأس السنة 2019 أيضًا.. وفى مدينة بوتروب قام أحد المتطرفين الألمان بدهس مهاجرين بسيارته.. أصيب ثمانية أشخاص.. كلهم مهاجرون مسلمون. وفى الأيام الأولى لعام 2019.. قالت صحيفة دى فيلت الألمانية: إن تفجيرًا وقع أمام مكتب حزب البديل الألمانى اليمينى المتطرف.. فى بلدة دوبلن بولاية ساكسونيا. وأن السلطات ترِّجح أن تكون الأسباب السياسية وراء الحادث. إن حزب البديل لألمانيا.. هو الممثل الرسمى لتيار اليمين المتطرف فى البلاد. لقد أصبح ثالث أكبر الأحزاب السياسية فى أربع سنوات.. وأصبح أول حزب يمينى متطرف يدخل البرلمان الألمانى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كانت الحرب العالمية الثانية هى حرب اليمين المتطرف ضد اليمين.. حرب الفاشية والنازية ضد اليمين الأوروبى والأمريكي. ولقد تمَّ القضاء على أيديولوجيا ودول اليمين المتطرف بعد ثمانين ألف ساعة من الحرب، وسبعين مليونًا من القتلى. لم يعد هناك يمينى متطرف واحد فى كل أوروبا بمقدوره أن يرفع صوته، أوْ أنْ يجهر بما يعتقد. بدَا الأمر وكأنَّ أدولف هتلر كان النازى الأخير وأنه لا نازيّ بعده. وليس من الممكن أبدًا أن تعود أفكار الثلاثينيات إلى العالم من جديد. مضت سبعون عامًا.. وبدَا أن نتائج الحرب العالمية الثانية قد انتهتْ، وأن البناء الفكرى الذى تأسَّس بعد الحرب العظمى بدأ فى التصدِّع والانهيار. لقد كان من نتائج الحرب: صعود الشيوعية العالمية وتنامى قوة الاتحاد السوفيتى ليتقاسم النفوذ العالمى مع الولاياتالمتحدةالأمريكية. وهنا انتهت الإمبريالية الكلاسيكية التى مثلتها فرنسا وبريطانيا لأزمنةٍ طويلة. كانت هزيمة النازية وصعود السوفيتية وانحسار الإمبريالية الكلاسيكية لصالح أوروبا الأمريكية.. بمثابة المثلث الفكرى لأيديولوجيا ما بعد الحرب. لقد مضتْ عقود على الاستقرار الأيديولوجى الجديد.. ثم كان انهيار الاتحاد السوفيتى مثل إمبراطوريةٍ من الفخار، وظهور النازيين الجدد، وتصدع الحلف الأوروبى الأمريكي. كانت مياه الأطلسى تتسِّع رويدًا رويدًا.. حتى أصبحت المسافة السياسية بين ضفتيْه أبعد من أىّ وقتٍ مضى. انتهت أوروبا الأمريكية لتعود أوروبا الأوروبية.. الشرق شرق والغرب غرب من جديد. وفى عهد الرئيس ترامب انتقل ذلك التباعد الجيوسياسى إلى العلن.. وبدأ الرئيس الأمريكى يتحدث عن ضرورة أن تدفع أوروبا مقابل بقاء أوروبا الأمريكية.. وبدورها راحت ألمانياوفرنسا تعملان على إدارة وضع ما بعد الانفصال الأمريكي.. وجرى الحديث عن حلف عسكرى أوروبى لا ينتظر الإنقاذ الأمريكى الذى قد لا يجيء. لقد انتهى المثلث الفكرى الذى حكم العالم إذن.. عادتْ النازية.. من خلال مقدماتٍ متعددة.. اقتضتْ اللياقة وصفها باليمين المتطرف وصعود الشعبويّة. ورحلت الشيوعية لتصبح روسيا الرأسمالية والصين الرأسمالية فى مواجهة أمريكا الرأسمالية. كما أن الغرب قد بات يشهد ما يمكن تسميته خريف الناتو.. البعض يشترى السلاح من روسيا.. والبعض لم يعد يثِق فى الحليف البعيد. وهكذا.. يتغير الفكر السياسى العالمي.. وتتغير الرؤى الحاكمة لعالم اليوم عمّا كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية. إن نهاية الشيوعية وصعود النازيّة وخريف الناتو.. يشكلِّون معًا.. النهاية الفكريّة للحرب العالمية الثانية. ذات يوم من صيف عام 1945 انتهى الزلزال.. وبقيت التوابع. تشكَّل عالما جديدا فى حقبة التوابع.. أو حقبة ما بعد الزلزال. واليوم يشهد العالم نهاية التوابع.. وإرهاصات عالم جديد. يختلف عالم ما بعد التوابع كثيرًا عن عالم ما بعد الزلزال.. لكنّه قد لا يختلف كثيرًا عن عالم الزلزال نفسه. إن التوقُّع الذى لا نريد أن نتوقعه هو.. انهيار العالم وعودة الدمّ من جديد. سيكون مفزعًا للغاية لو كانت النهاية الفكرية للحرب العالمية الثانية هى نفسها البداية الفكرية للحرب العالمية الثالثة. لمزيد من مقالات ◀ أحمد المسلمانى