ماذا حدث في الاتحاد السوفيتي بعد أن انتهي الروائي السوفيتي الكسندر سولجنستين من تأليف تحفته الرائعة أرخبيل جولاج والتي عبر فيها عن طغيان ستالين في عام1968 ؟ كنت شاهد عيان علي ما حدث, إذ كنت أستاذا زائرا بجامعة موسكو في الفترة من4 أكتوبر1968 إلي4 أكتوبر1969 لاجراء حوار مع الفلاسفة السوفيت حول رؤيتهم لمصير الفلسفة الماركسية في الحرب الثقافية الباردة, أي مصيرها وهي تواجه التحدي القادم من الفلسفة الغربية البورجوازية. والسؤال اذن: ما هو هذا التحدي؟ إنه الثورة العلمية والتكنولوجية. فهذه الثورة إلكترونية الطابع في نهاية المطاف, والكمبيوتر هو الرمز وأساسه منطق جديد اسمه المنطق الرياضي الذي أحال الألفاظ إلي رموز رياضية وحركها استنادا إلي قوانين جديدة, وهذه القوانين لا تحفل بقوانين المنطق الذي تستند إليه الماركسية وهو ما يعرف باسم المنطق الديالكتيكي والسؤال اذن: ما الفارق بين المنطقين, أي بين المنطق الرياضي والمنطق الديالكتيكي؟ المنطق الرياضي يحيل الألفاظ إلي رموز لكي يحررها من الغموض والالتباس ثم يخضع الرموز لعمليات استدلالية دقيقة بحيث ينتهي إلي نتائج تخلو من الخطأ, فنقول عنها إنها صادقة بالضرورة. أما المنطق الديالكتيكي فلا ينشغل إلا بالمتناقضات سواء كانت هذه المتناقضات في العقل أم في الواقع أم في كليهما, وتكون مهمته بعد ذلك إزالة هذه المتناقضات إلا أن ازالتها لن تكون حاسمة, إذ هي وسيلة لإفراز تناقضات جديدة, وبفضل عمليتي الإزالة والإفراز يحدث التطور الحضاري. ومن ثم فهذا المنطق الديالكتيكي لا يعنيه الصدق إنما يعنيه التطور. وتأسيسا علي هذه المقارنة يمكن القول بأن ثمة صراعا بين المنطقين. وقد عبر عن هذا الصراع فيلسوف سوفيتي ذائع الصيت اسمه ايفلد إلينكف عندما أصدر كتابا عنوانه الأصنام والمثل في عام1968 يسخر فيه من الكومبيوتر الذي هو من افراز المنطق الرياضي, إذ لايراه إلا مجرد أسطورة فيفترض كمبيوتر يتصور نفسه علي أنه أعقل من الانسان. واذا بالانسان يذعن لهذا التصور فيطرح متناقضاته علي هذه الآلة ويفتح بعد ذلك صندوقا أسود موضوعا بجوار الكومبيوتر ليعثر علي حلول لهذه المتناقضات, فاذا به يعثر علي متناقضاته بلا حلول. ويقصد إلينكف من هذا الافتراض أن مصير الانسان تعس اذا أحال متناقضاته إلي الكومبيوتر. واللافت للانتباه هاهنا أن هذا الكتاب نفد بعد أسبوع من صدوره. والمغزي أن الهجوم علي الثورة العلمية والتكنولوجية قد لقي رواجا بين الجماهير المثقفة في الاتحاد السوفيتي. ومع ذلك فقد أدي صدور هذا الكتاب إلي نشوء صراع في الحزب الشيوعي السوفيتي بسبب أن فئة من الفلاسفة لم تكن علي اتفاق مع رأي إلينكف, ومن بينها منطقي بارز اسمه نارسكي كان مشهورا بدفاعه عن المنطق الرياضي. وعندما التقيته ذات يوم للحوار كان مغتبطا للغاية. وعندما سألته عن السبب أجاب: لقد انتصرت علي إلينكف في الحزب. وبعد عشر سنوات من هذا الانتصار انتحر إلينكف وترك ورقة مكتوبا فيها:الحزب علي حق. وعلي الرغم من انتصار نارسكي إلا أنه لم يكن منفتحا علي الحلول التي أتت بها الفلسفة الغربية البورجوازية, لأنه كان يخشي علي الماركسية من التحريف, اذا استجابت لهذه الحلول. وقد وضحت هذه الخشية في محاوراتي مع نفر من أساتذة علم الاجتماع في جامعة ليننجراد ارتأي ضرورة إحداث تعديل في الماركسية بحيث يمكن ادخال العامل الذاتي, أي العامل الانساني. مع العامل الموضوعي, أي العامل الطبيعي, لتفسير ظاهرة شائعة بين العمال وهي وجود مسافة بين اعتقاد العمال بالشيوعية وبين اتيانهم أعمالا منافية لهذا الاعتقاد. والسؤال اذن: ماذا حدث لذلك النفر؟ طرد من الجامعة وتشتت. ولكن بقي التمرد علي الماركسية المتزمتة حتي تآكلت وانهارت في عام.1991 واذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي حال مصر في هذا الزمان فماذا تري؟ تيار متزمت من صنع الاخوان المسلمين تحكم في أحوال مصر, وجماعة شاردة متمردة علي هذا التزمت وهذا التحكم. فهل ما سيحدث لمصر مماثل لما حدث للاتحاد السوفيتي عندما انهار في عام1991 ؟ المزيد من مقالات مراد وهبة