فى الوقت الذى يزور فيه مستشار الأمن القومى جون بولتون إسرائيل وتركيا, يقوم وزير الخارجية مايك بومبيو بجولة شرق أوسطية تشمل ثماني دول كلها تعد من الحلفاء الإستراتيجيين للولايات المتحدة, والقاسم المشترك بين الزيارتين أن هناك مساعى يقودها الصقور فى البيت الأبيض لإعادة رسم ملامح السياسة الأمريكية فى المنطقة. أول تلك الملامح تأكيد الأهمية الإستراتيجية للشرق الأوسط فى السياسة الأمريكية, وأن اهتمام الولاياتالمتحدة بمناطق أخرى فى العالم, خاصة شرق آسيا والتركيز على الصين باعتبارها المنافس أو الخصم الإستراتيجى للولايات المتحدة إضافة لروسيا, لا يعنى انسحابا أمريكيا من المنطقة, فالانخراط الأمريكى فيها تفرضه ضرورات المصالح المتشابكة معها بكل أشكالها السياسية والإستراتيجية والأمنية والاقتصادية, ولا يمكن لأى إدارة أمريكية, سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية, فك اشتباكها مع المنطقة أو استبدال اهتمامها بمنطقة أخرى فى العالم, ولعل قرار الرئيس ترامب بإعلان الانسحاب السريع من سوريا ثم تراجعه إلى الانسحاب البطيء ثم عدم تحديد جدول زمنى حتى يتم تحقيق الأهداف الثلاثة وهى القضاء تماما على تنظيم داعش وحماية حلفائها الأكراد الذين وقفوا معها فى محاربة الإرهاب, وتحجيم النفوذ الإيرانى فى سوريا, عكست القلق الكبير فى المنطقة والارتياب فى الإستراتيجية الأمريكية, لأن أى انسحاب أمريكى غير مخطط أو عبر التنسيق مع الحلفاء سيترك فراغا كبيرا تملؤه القوى الثلاث الفاعلة فى الإقليم وهى: إيران وروسيا وتركيا, كما حدث عندما انسحبت القوات الأمريكية من العراق بقرار انفرادى, مما ادى إلى قيام إيران بالتغلغل والتمدد فى العراق وصعود تنظيم داعش بعدها بسنوات واستيلائه على ثلث مساحة العراق فى عام 2014, وهو ما يضر ليس فقط بالمصالح الأمريكية وإنما أيضا بمصالح الدول الحليفة فى المنطقة, ولهذا يسعى بومبيو إلى طمأنة الحلفاء بأن الانسحاب الأمريكى من سوريا مشروط ومرهون بعدم تكرار سيناريو 2011. وثانى تلك الملامح، هو تأكيد الشراكة الإستراتيجية مع الدول الثماني, خاصة مصر والسعودية, اللتين تعتبران حجر الزاوية فى المنطقة وفى تحقيق الأمن والاستقرار فيها, وهى شراكة متعددة المستويات وأن تدعيمها هو فى مصلحة الولاياتالمتحدة, لأن تحقيق الأهداف الأمريكية فى المنطقة سواء محاربة الإرهاب أو مواجهة الخطر الإيرانى أو تسوية الصراعات الملتهبة فى بعض دول المنطقة لا يمكن أن تنجح دون التنسيق والتعاون مع الدولتين, كما أن تلك الشراكة تقوم على الاستقلالية والمصالح المتبادلة بما يفرض تطوير التعاون الاقتصادى والعسكرى والتنسيق السياسى بين الولاياتالمتحدة وحلفائها فى المنطقة. وثالث هذه الملامح هو إعادة ترتيب أولويات السياسة الأمريكية فى المنطقة لتصبح مواجهة التهديد الإيرانى, الأولوية الأولى, بعد تراجع خطر تنظيم داعش الإرهابى بعد هزائمه الساحقة فى العراقوسوريا وتحرير معظم الأراضى التى كان يسيطر عليها, رغم استمرار بعض جيوبه من الخلايا النائمة والذئاب المنفردة التى تقوم بعمليات إرهابية هنا وهناك. ولاشك فى أن تحقيق الأمن والاستقرار فى المنطقة وتسوية أزماتها يرتكز بشكل كبير على مواجهة النفوذ الإيرانى الذى يمثل التهديد الأكبر عبر دعم الطائفية التى تغذى بيئة الإرهاب, وهدم أسس الدولة الوطنية العربية عبر دعم الفاعلين من غير الدول والذين يشكلون كيانات موازية للدولة مثل ميليشيا الحوثى الانقلابية فى اليمن وحزب الله فى لبنان والميليشيات الشيعية فى سورياوالعراق, والتى يحركها جميعا الحرس الثورى الإيرانى وفيلق القدس, وفى هذا السياق كان تغيير إدارة ترامب لإستراتيجيتها تجاه إيران والتحول من سياسة الجزرة, أى الحوار والمساعدات, التى تبنتها إدارة أوباما, إلى سياسة العصا الغليظة والانسحاب من الاتفاق النووى وفرض أقصى العقوبات على النظام الإيرانى لوقف تهديداته الثلاثة, النووى والباليستى ودعم الإرهاب, وهنا تتقارب وتتوافق رؤى الدول الحليفة مع الولاياتالمتحدة فيما يتعلق بالملف الإيرانى. ورغم أن إحياء عملية السلام ودور أمريكا كراع لتلك العملية يظل فى أولويات السياسة الأمريكية تجاه المنطقة, إلا أن هذا الملف يشهد تباينات كبيرة مع الحلفاء فى المنطقة, خاصة ما تسرب من عزم الإدارة الأمريكية طرح خطة سلام جديدة, تعرف إعلاميا بصفقة القرن, حيث تعتبر دول المنطقة وعلى رأسها مصر والسعودية أن أي صيغة انفرادية للسلام لا تحقق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى وعلى رأسها حقه فى إقامة دولته المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدسالشرقية وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين, لا يمكن لها أن تحقق السلام العادل والشامل والدائم فى المنطقة, وهو ما سيسمعه بومبيو خلال جولته العربية, ولاشك فى أن تفعيل الدور الأمريكى فى تحقيق هذا السلام العادل هو فى مصلحة جميع الأطراف بما فيها الولاياتالمتحدة ويدعم التحالف الإستراتيجى بينها وبين دول المنطقة وأن أى محاولة أمريكية لفرض صيغة معينة للسلام سيكون مصيرها الفشل وتكرس حالة عدم الاستقرار فى المنطقة. زيارة بومبيو للدول الثماني ومحادثاته مع المسئولين فيها، من شأنها أن تعيد رسم ملامح السياسية الأمريكية فى الشرق الأوسط، وإعادة ترتيب الأولويات، وإصلاح أوجه الخلل فيها وهو أمر تفرضه واقعية المصالح وتقارب الأهداف بين أمريكا ودول المنطقة. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد سيد أحمد