الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    هذه الأنشطة لا تخضع لمواعيد الغلق في التوقيت الصيفي 2024    المرصد الأورومتوسطي يطالب بتحرك دولي عاجل بعد كشفه تفاصيل مروعة عن المقابر الجماعية في غزة    موعد مباراة ليفربول المقبلة في الدوري الإنجليزي بعد الخسارة أمام إيفرتون    أبو رجيلة: فوجئت بتكريم الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    الأرصاد تعلن موعد انكسار الموجة الحارة وتكشف عن سقوط أمطار اليوم على عدة مناطق (فيديو)    إصابة 9 أشخاص في حريق منزل بأسيوط    أشرف زكى وريهام عبد الغفور ومحمد رياض وخالد جلال في حفل تكريم أشرف عبد الغفور| صور    سيارة تتراجع 210 آلاف جنيه مرة واحدة.. تعرف عليها    توقعات ميتا المخيبة للآمال تضغط على سعر أسهمها    تعديل موعد مباراة الزمالك وشبيبة سكيكدة الجزائري في بطولة أفريقيا لكرة اليد    مستشار الأمن القومي الأمريكي: روسيا تطور قمرا صناعيا يحمل جهازا نوويا    طلاب مدرسة أمريكية يتهمون الإدارة بفرض رقابة على الأنشطة المؤيدة للفلسطينيين    لتفانيه في العمل.. تكريم مأمور مركز سمالوط بالمنيا    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمخزن أجهزة كهربائية بالمنيا.. صور    روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استمرار القتال    بعد ارتفاعها الأخير.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالبورصة والأسواق    بعثة الزمالك تسافر إلى غانا اليوم على متن طائرة خاصة استعدادًا لمباراة دريمز    بعد الصعود للمحترفين.. شمس المنصورة تشرق من جديد    واشنطن تعلن التصدي لصاروخ حوثي يستهدف على الأرجح سفينة ترفع العلم الأمريكي    السيناريست مدحت العدل يشيد بمسلسل "الحشاشين"    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    صندوق التنمية الحضرية يعلن بيع 27 محلا تجاريا في مزاد علني    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالصاغة    الليلة.. أدهم سليمان يُحيي حفل جديد بساقية الصاوي    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    "مربوط بحبل في جنش المروحة".. عامل ينهي حياته في منطقة أوسيم    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    بيع "لوحة الآنسة ليسر" المثيرة للجدل برقم خيالي في مزاد    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    يسرا اللوزي تكشف كواليس تصوير مسلسل "صلة رحم"|فيديو    كرة السلة، ترتيب مجموعة الأهلي في تصفيات ال bal 4    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    اجتياح رفح.. كيف ردت مصر على مزاعم إسرائيل بخرق اتفاقية السلام؟    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    منسق مبادرة مقاطعة الأسماك في بورسعيد: الحملة امتدت لمحافظات أخرى بعد نجاحها..فيديو    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهرمنيوطيقا ومشكلات التفسير والتأويل 2
نشر في الأهرام اليومي يوم 04 - 01 - 2019

والحق أن ترجمة موسوعة الهرمنيوطيقا لا تجعلنا على دراية بهذا المجال المعرفى القديم فحسب، بل يجعلنا على معرفة بكل متغيراته الحديثة والمعاصرة التى وصلته بكل معارف عصرنا كله، خصوصًا من الزاوية البينية التى تتضافر فيها اختصاصات لا نهاية لإمكانات تواصلها، أو تبادلها علاقات التأثر والتأثير. وهذا أمر لا يحتاج نقله إلى اللغة العربية إلى مترجم عادى، بل إلى مترجم استثنائى يكون على قدر مستوى العمل المُترجَم ودوائر معارفه البينية التى تبدأ بالنص الدينى وتجاوزه إلى الفلسفة ومنها إلى الآداب والفنون، ومن هذا كله إلى آفاق العلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية. ولولا ثقافة محمد عنانى الموسوعية وخبرته الطويلة فى الترجمة وحرصه الدائم على تطوير دوائر علمه وتوسيع آفاقها، ما كان يمكن أن تُترجم هذه الموسوعة التى ما كان يمكن أن يترجمها إلا هو بخبراته المذهلة فى الترجمة عن وإلى الإنجليزية، وثقافته الموسوعية التى تجعله قادرًا على التصدى للتحديات العسيرة التى لا يستطيع مواجهتها إلا محمد عنانى دون غيره.
...........................................
ولو كنا فى بلد يقدر للترجمة حقها الواجب لأقمنا له احتفالًا عالميًّا كبيرًا بمناسبة اكتمال ترجمته لهذه الموسوعة فى ثلاثة مجلدات تتصدرها مقدمة عربية لها وزنها العلمى وثقلها النقدى على السواء. وهى مقدمة تشى بعلمه التراثى العربى وخبرته الهائلة فى ترجمة النصوص الأدبية والنقدية. فالمقدمة تتحدث عن منهجه فى الترجمة، فتكمل ما سبق أن كَتبه فى كُتبه عن الترجمة بوجه عام، وعن الترجمة الاصطلاحية بوجه خاص، وذلك فى لغة سلسة عذبة وبالغة الدقة فى الوقت نفسه، وذلك على نحو يؤكد سلاسة اللغة المستخدمة التى تجعل من النص المُترجَم نصًّا عربيًّا صحيحًا وسلسًا وفصيحًا فى الوقت نفسه، ولا غرابة فى ذلك، فمحمد عنانى كاتب مسرحى وشاعر فى الوقت نفسه، وهو ينطبق عليه ما كان يقوله الجاحظ عن المتكلمين من أن المتكلم لا يكون متميزًا فى علم الكلام إلا إذا كان ما يعرفه من علوم الدين فى وزن ما يعرفه من علوم الفلسفة. والحق أن ما يعرفه محمد عنانى من المعارف اللغوية العربية التراثية والحديثة فى وزن ما يعرفه من المعارف الإنجليزية خصوصًا علوم الترجمة بتشعباتها اللغوية، ودراسات الترجمة ومدارسها بوجه عام. ولذلك جاءت مقدمته مقدمة تؤكد هذه المعرفة وتشير فى الوقت نفسه إلى كتاباته السابقة (ومنها كتابه «تعريب المصطلح وترجمته فى العلوم الإنسانية» 2015) أو كتاباته فى ترجمة المصطلح بوجه عام، وأضف إلى ذلك معرفته بعدد من المذاهب الفلسفية المتواشجة مع دراسات الهرمونيوطيقا بوجه خاص، خصوصًا فلسفة الظواهر عند هوسرل أو هايدجر أو غيرهما من الفلاسفة الألمان الذين يعدون المؤسسين الجدد للهرمنيوطيقا الحديثة بمعانيها ومجالاتها المختلفة التى أضاف إليها غيرهم من الفرنسيين مثل بول ريكور (1913 2005) ويانى ڤاتيمو الإيطالى (1936 2000).
وبعد ذلك تأتى الترجمة التى وضع مقدمتها يف مالباس متحدثًا عن علاقة الهرمنيوطيقا بالفلسفة الأوربية الحديثة ابتداء من محاضرات هايدجر عام 1923 مرورًا بكتابات هانز جورج جادامير التى تجعل من الهرمنيوطيقا اسمًا لمنهج أساسى من الانعكاسية التفسيرية كما تقول ترجمة عنانى. وتشير المقدمة على نحو خاص إلى الجهود الألمانية فى تأسيس الهرمنيوطيقا الحديثة وفى امتداداتها التى نراها عند جيانى ڤاتيمو، الفيلسوف الإيطالى الشهير المعروف ببصمته الواضحة فى تاريخ الهرمنيوطيقا، فضلًا عن بصمته الموازية فى تحديد دلالات الحداثة وما بعدها. وربما كان أهم ما فى هذه المقدمة، إشارة المؤلف الأصلى إلى الإنجازات المعاصرة التى بدأت تجاوز النزعة المركزية الأوربية الأمريكية، وهو ما أدى إلى توجه جديد فى الهرمنيوطيقا، يهدف إلى تحقيق تضافر وتفاعل بين الفلسفات المكتوبة باللغة الإنجليزية والفلسفات المكتوبة بلغات غير الإنجليزية، فى غمار اكتساب الفلسفة طابعًا تعدديًّا صادقًا حيث التنوع اللغوى والامتداد الجغرافى. وللمرء أن يقول أيضًا إن الهرمنيوطيقا أصبحت تمثل ساحة مناسبة إلى حد بعيد لتحقيق التضافر بين دارسى الفلسفة على امتداد العالم الناطق باللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات بل العالم الذى لا يقصر الهرمنيوطيقا على أوربا ويمتد بها إلى غيرها من القارات.
ويشرح جيف مالباس تقسيم الموسوعة إلى خمسة أبواب، فالباب الأول تاريخى يركِّز على التقاليد الأولى للهرمنيوطيقا فى الفكر اليونانى القديم وفكر القرون الوسطى. وإذا كان هذا الباب يؤكد التقاليد الأوَّلية، فإن الباب الثانى يرتبط بتطورات الهرمنيوطيقا بوصفها مبحثًا قائمًا برأسه، وتتمتع بأهمية فلسفية صريحة، تجاوز أهميتها اللاهوتية، ثم يأتى الحديث عن الفصول التى تركز على الفيلسوفينِ سبينوزا وڤيكو. وينتقل بسرعة إلى المفكرين فى تقاليد ما بعد كانط والمثالية الألمانية. وتأتى بعد ذلك أنماط متنوعة من مفكرى القرن العشرين حتى القرن الحالى. وتعتبر الفصول فى مجموعها سردًا زمنيًّا متعاقبًا لتاريخ الهرمنيوطيقا من القرن السادس عشر فصاعدًا، وذلك من خلال المفكرين الأساسيين الذين يمثلون خيطًا صاعدًا فى تطوير الهرمنيوطيقا من شلاير ماخر ودلتاى وهيدجر وجادامر وڤاتيمو إلى جانب شخصيات أخرى مثل نيتشه وشتراوس وكولينجوود وديفيدسون الذين يعتبر موقفهم مستقلًا بعض الشىء فى سياق هذا التطور أو يتعامد معه على السواء.
ولكن السرد التاريخى الذى يقدمه الباب الثانى من الموسوعة لا يقصد أن يكون وصفًا شاملًا أو قاطعًا، فالواقع أن الطابع الانعكاسى للهرمنيوطيقا إلى جانب عوامل أخرى، مثل الالتباس فى التفسير، واهتمام الهرمنيوطيقا الأساسى بالتحديد التاريخى لطبيعة الفهم، وما يرتبط به من قبليات المُفسِّر وميوله وتوقعاته، وهو ما يعنى الهرمنيوطيقا نفسها- له عاقبة محتومة، ألا وهى أن اتفاق آراء المفسرين فى تاريخ الهرمنيوطيقا أصبح أصعب من اتفاقهم على غيرها من فروع الفلسفة؛ إذ إن القطع فيما ينتمى لتقاليد الهرمنيوطيقا، وكيف يمكن تصوير تاريخ الهرمنيوطيقا يعتبران فى ذاتهما من المسائل الهرمنيوطيقية الخالصة.
وتسود النظرة المعاصرة فى معظم أقسام الموضوعات التالية للسرد فى الباب الثانى، وهو باب يهتم بالتركيز المعاصر على مباحث الهرمنيوطيقا، ولا يقصد هذا الباب أن يقدم الهرمنيوطيقا بوصفها مجالًا للنشاط الفلسفى المعاصر أو الحالى، فقد قامت بذلك كتب متاحة للقارئ باللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات الأوربية. ولذلك يختص الباب الثالث بموضوع القضايا الهرمنيوطيقية سواء القضايا الجوهرية فى تقاليد هذا المجال المعرفى، أو مناقشة المشكلات والمفاهيم الأساسية. ولكن تتداخل فصول هذا الكتاب ما ظل تركيزها مُنصبًّا على مشكلات التفسير والفهم، لكن يتناول كل فصل هذه المشكلات من منظورها الخاص أو موضوعها الخاص. ويأتى الباب الرابع وهو عن الاشتباكات الهرمنيوطيقية ليربط التخصصات ربطًا بينيًّا، على نحو يجعل من الهرمنيوطيقا مجالًا معرفيًّا تتعدد ميادينه كما تعددت مناهج البحث فيه. وتوضح هذه الأبواب بفصولها المتعددة كيف ترتبط الهرمنيوطيقا الفلسفية بالمناهج الأخرى للبحث الهرمنيوطيقى، ومن بينها ما يمكن أن نسميه «الهرمنيوطيقا التطبيقية». أما الباب الخامس وعنوانه: «تحديات وحوارات»، فيستكشف طبيعة السبل المُنوعة التى ترتبط بها الهرمنيوطيقا مع المداخل والتقاليد الأخرى، كما يتناول البحوث النقدية الرئيسية التى كُتبت لمهاجمة الهرمنيوطيقا ونقضها، سواء من داخل بعض المجالات النسوية أو النظرية النقدية، أو التفكيكية. ويأتى الفصل الختامى للموسوعة كى يقدم عددًا من الأفكار عن مستقبل الهرمنيوطيقا، من يانى ڤاتيمو الإيطالى الذى يعتبر آخر ممثل للتقاليد العظيمة للهرمنيوطيقا فى القرن العشرين، حيث يقدم محاجة راديكالية ومثيرة عن مستقبل الهرمنيوطيقا، وذلك على نحو يربط ربطًا مباشرًا بين الهرمنيوطيقا وأحوالنا المعاصرة، وبين الهرمنيوطيقا والسياسات الراديكالية.
ويرجع ذلك إلى أن فاتيمو لا يرى الفلسفة وحدها هرمنيوطيقية فى جوهرها، أى تقوم على التفسير والمحادثة والحوار، بل يرى أن الهرمنيوطيقا تصف أى نهج سياسى يرفض القهر أو القسر أو حتى الديكتاتورية. ويعنى فاتيمو بذلك ضرورة إدراك علاقة الهرمنيوطيقا بالفلسفة والسياسة على السواء.
ويمضى جيف مالباس بعد ذلك بما يؤكد أن الموسوعة قد تنطوى على ثغرة كبيرة فى تغطية الكتاب للعصر الحديث، خصوصًا فيما يتصل بكانط وهيجل أو غيرهما مثل هردر وهمبولت وشليجل..إلخ. ولكن يبدو أن السبب فى ذلك هو تركيز الموسوعة على مجال الهرمنيوطيقا الفلسفية بالدرجة الأولى. وهو أمر يُهمل إهمالًا تامًّا الجهود الهرمنيوطيقية، سواء فيما يتصل بالفكر اليهودى أو الفكر الإسلامى الذى اهتم كل الاهتمام بقضايا التأويل أو التفسير سواء فى النواحى الدينية أو الأدبية أو التاريخية. ويمكن أن نضيف إلى هذه المجالات الفكر الصينى المعاصر وهرمنيوطيقا الفلسفة الإفريقية التى ترتبط بتقاليدها الأصلية وتنوع التركة الاستعمارية. ولا شك فيما يرى يف مالباس أنه ينقد مجموعة العمل الأولى التى اشتركت فى الكتاب والتى انطوت على نوع من المركزية الأوربية التقليدية، وكأنه يقترب فى هذا النقد من خطاب ما بعد الاستعمار الذى هو نوع من احتجاج التابع القديم على المتبوع، ومن ثم التحرر من مركزيته أو استعماره فى آن. ويعنى ذلك أن هذه الموسوعة بحكم ثقافة كُتّابها لا تهدف إلى تقديم صورة كاملة أو شاملة عن الهرمنيوطيقا إلى أقصى حد ممكن، فى إطار ارتباطها المعاصر بمفاهيم الهرمنيوطيقا، وتعدد مشكلاتها الخاصة، وتنوع هذه المشكلات قريبة العهد بالفلسفة المعاصرة، والمداخل العلمية وغيرها من المداخل المعاصرة أيضًا. فالهدف من هذه الموسوعة تحديد انبثاق المفاهيم الهرمنيوطيقية وتطورها فى الفلسفة الأوربية قديمًا وحديثًا، ومن ثم فإنها لا تشمل أعداء المركزية من أمثال جاك ديريدا التفكيكى وأستاذه نيتشه. وهذا ما يكمله نقد جيف مالباس من أن هدف الموسوعة لا يكتمل إلا فى علاقته باهتماماتنا وشواغلنا الحالية التى تبدأ من المشكلات والشواغل القديمة حقًّا، ولكن فى علاقاتها بالمستقبل، فالفهم كله موجه إلى المستقبل وينطلق إليه. والحق أننى كنتُ أتوقع أن يعلق صديقى وزميلى محمد عنانى على الفارق الذى يمايز بين المقدمة وبقية الكتابات من حيث المنظور الفكرى والأساس الفلسفى الذى تنطلق منه أغلب الأبحاث التى لم تخلُ من المركزية الأوربية الأمريكية، لكن هذا النقد لا يقلل من قيمة الموسوعة خصوصًا فى شرحها أو نقدها لتيارات الهرمنيوطيقا فى الفلسفة الغربية والأوربية على وجه خاص.
ومن هذا المنظور قرأتُ بعين المتمعِّن ما جاء فى هذه الموسوعة عن الهرمنيوطيقا وعلم الجمال والفنون، كما قرأتُ ما جاء عن الهرمنيوطيقا والتفكيك حيث جرى الصدام بين جادمر وديريدا، كما قرأتُ ما ورد فى الموسوعة عن الهرمنيوطيقا والنظرية النقدية، وكذلك عن الهرمنيوطيقا والبنيوية وما بعد البنيوية، وأخيرًا ما جاء فى الفصل الختامى عن الهرمنيوطيقا بقلم ڤاتيمو الذى يُسقط ثوريته الحياتية على الهرمنيوطيقا، فيجعل منها دافعًا للفهم الخلاق، ذلك الفهم الذى لا يكتفى بامتلاك المفهوم، وإنما يضيف إلى ذلك سعى المفهوم فى تحرير الوجود والكائن على السواء من شروط الضرورة ليفتح له أفق الحرية الذى يتسع باتساع حركة الكائن فى كل الوجود.
ويبدو أن هذه الملحوظة هى التى دفعت المحرر الأساسى للموسوعة إلى استكمال هذا النقص فيها، فأضاف بحثًا عن الهرمنيوطيقا والكونفوشيوسية، أعدته كاتلين رايت، وفصلًا آخر عن الهرمنيوطيقا والفكر اليهودى من إعداد أندرو بنجامين، وأخيرًا فصلًا ختاميًّا للباب الخاص عن الهرمنيوطيقا العربية والإسلامية من إعداد إبراهيم موسى، وهو أستاذ الدراسات الإسلامية فى قسم التاريخ بمعهد كروك (Kroc) لدراسات السلام العالمى فى جامعة نوتردام. وقد فاز بجائزة عن كتابه: «الغزالى وشعرية الخيال»، وله كتاب: «ما المدرسة الدينية؟»، كما نشر أبحاثًا عن الشريعة الإسلامية والأخلاق واللاهوت والهرمنيوطيقا. والبحث لا بأس به من حيث الإشارة إلى بعض الاجتهادات الحديثة عند نصر حامد أبو زيد وحسن حنفى وغيرهما، ولكنه لم يكن معبرًا بالقدر الواجب عن الثراء المذهل الذى تتميز به دراسات التأويل ومدارسه فى التراث العربى الإسلامى أولًا، أو التراث الإسلامى الفارسى ثانيًا. وللأسف، لم أرَ فى بحث إبراهيم موسى ما ينبئ عن معرفة بما كتبه نصر حامد أبو زيد عن قضية المجاز عند المعتزلة، وهى قضية تتواشج مع قضية التأويل عند ابن عربى، ومن ثم الصوفية. والحق أن الاعتزال لا يقل ثراء عن التصوف فى الوعى بالمشكلات الهرمنيوطيقية التى يطرحها النص الأدبى والنص الدينى على مفسريه. وقد كنتُ أتمنى أن تضم هذه الموسوعة مبحثًا خاصًّا بالهرمنيوطيقا فى التراث الفارسى القديم والمعاصر، فقد وقع فى يدى أخيرا كتاب محمد مجتهد شبسترى، أستاذ الهرمنيوطيقا فى جامعة طهران. وهو بعنوان: «الهرمنيوطيقا: الكتاب والسُّنة» وواضح من العنوان أن المقصد هو دراسة كيفية فهم واستقبال الجماعة السُّنية لما ورد فى القرآن الكريم عن عملية الوحى. ويردُّ اختلاف عملية الفهم لدى كل مفسّر إلى اختلاف التصورات السابقة على قراءة النص، والميول الاجتماعية والسياسية، وحتى الدينية، والتوقعات الخاصة التى توجِّه عملية الفهم والافتاء لدى كل مفسر. ويقصد شبسترى بالهرمنيوطيقا فى كتابه «ابتناء تفسير النصوص وفهمها على قبليات المفسر وميوله وتوقعاته».
والحق أنى لم أعرف السبب الذى دفع المحرر إلى تجاهل المدرسة الاستشراقية الألمانية فى دراسة مذاهب التفسير أو ما كتبه جولد تسيهر عن العقيدة والشريعة، أو عن مذاهب التفسير القرآنى التى دفعت الشيخ محمد حسين الذهبى (1915 1977) إلى تأليف كتابه الضخم «التفسير والمفسرون» فى ثلاثة مجلدات فى ذهن متفتح، متنور، الأمر الذى دفع جماعة التكفير والهجرة إلى اغتياله، فمات شهيدًا للعلم على أيدى قوى الإظلام التى لا تزال مخاطرها باقية، تهدد كل فكر دينى مستنير.
ويبدو أن هذه المقالات الأخيرة كانت بمثابة سعى من محررى الموسوعة فى الخروج من إطار المركزية الأوربية الأمريكية باللجوء إلى إبراز دور جاك ديريدا فى نقض مركزية اللوجوس وكل مركز، محاولًا إيجاد كون من الصيرورة التى تنقض كل بناء مغلق، أو كل بناء أحادى المركز، ففلسفة التفكيك التى تنقد نزعة المركزية بوجه عام. هى الدافع إلى كتابات ڤاتيمو الراديكالية التى تسعى إلى تحقيق الهدف نفسه. ولكن الموسوعة كلها ظلت واقعة فى أَسر المركزية الأوربية لا تجاوزها إلى غير أوربا إلا مع شىء غير قليل من سوء الفهم. وهذا ما يدفعنى إلى عتاب زميلى وأخى محمد عنانى فى عدم التنبه إلى الموقف الراديكالى لإدوارد سعيد الفلسطينى الأمريكى فى هوامش عدد من المواضع التى كان يستحق أن يعقِّب عليها أو يُبين عوارها، وهو الذى ترجم ثلاثة كتب فيما أعرفُ - لإدوارد سعيد، القطب البارز فى خطاب ما بعد الاستعمار أو فى الخطاب المناقض للاستعمار على السواء، والذى يمكن أن نعد له كتابًا بالغ التميز فى منظوره الهرمنيوطيقى، وهو كتاب: «العالم والناقد والنص» (1975) الذى أكد فيه أن فعل القراءة نفسه هو فعل موجود انطولوجيًّا واجتماعيًّا كالنص المتولد عن تاريخ مواز، متزامن أو متباين، لكن بما يجعل من العلاقة بين الأطراف الثلاثة علاقة جدل مستمر، فالناقد يقرأ النص فى سياق تاريخى، ومن خلال منظور سياسى اجتماعى بعينه، يشابه أو يخالف أو يناقض السياق التاريخى الاجتماعى لزمن النص، فكل قراءة عند إدوارد سعيد هى قراءة فى التاريخ. وأفضل الأنواع عنده هى النقد المدنى الذى هو مقاومة فى التحليل - لكل أنواع الأصولية والانغلاق والجمود الاعتقادى، فالنقد الجدير بهذا الاسم هو مقاومة لشروط الضرورة، وثورة أداتها تحليل العمل وتفسيره- من أجل تحرير القارئ من كل شروط الضرورة. ولكن مثل هذه الملاحظات لا تقلل إطلاقًا من قيمة الجهد الاستثنائى الذى غدا نادرًا فى هذا الزمان. وهو جهد لا يكفى معه تحية محمد عنانى فحسب، بل دعوة كل الأطراف الثقافية المعنية إلى الاحتفاء به. لكن حتى لو ذهبت دعوتى سدى فحسب محمد عنانى هذا الإنجاز الذى جعله يسهر الليالى والأشهر، فى عمل جاد متواصل حتى يقدم لنا موسوعة كاملة عن واحدة من أهم دوائر المعرفة والمناهج التى نحن فى أمسِّ الحاجة إليها، وهى دائرة الهرمنيوطيقا التى بدأ الكتابة عنها المرحوم نصر حامد أبو زيد فى أبريل 1981، وجاء الدكتور محمد عنانى ليستأنف الترجمة عنها فى 2018 بعمل يعد من أهم الأعمال المترجمة إن لم يكن أهمها على الإطلاق - فى عام 2018.
والحق أن موسوعة محمد عنانى فى تفصيلاتها تستحق الكثير من الفحص والتدقيق، ولكن حسبى ما قُلتُه تقديرًا لهذه الترجمة العظيمة التى ينبغى أن يفخر المركز القومى للترجمة ويباهى بها، فهى قمة إصداراته فى العام الذى انقضى، والذى يستحق عليه المركز القومى للترجمة التحية على الموسوعات الأخرى التى ترجمها فى هذا العام، وأخص بالتقدير فيها موسوعة «ألف ليلة وليلة» التى ترجمها السيد إمام، و«معجم الأساطير اليونانية والرومانية»، الذى ترجمه الدكتور عبد الباسط حسن، وراجعه الزميل الدكتور محمد حمدى إبراهيم، أما التحية الأخيرة فلمحمد عنانى الذى لا يزال يعمل بعزيمة صادقة وجهد خلاق، والذى ينبغى أن نُهنِّئه بعيد ميلاده الثمانين الذى نحتفل معه به فى هذا اليوم الموافق الرابع من يناير سنة 2019 بكل الحب والتقدير.
لمزيد من مقالات جابر عصفور;


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.