تواجه الولاياتالمتحدة فعليا الآن عزلة شديدة فى مختلف مناطق العالم، ومن بينها جنوب شرق آسيا التى كانت تمثل الحديقة الخلفية لواشنطن. ويرجع تغير موقف تلك الدول إلى تبنى إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لسياسات حمائية، حتى وإن كان تحقيقها يعنى التخلى عن أمن حلفائها التقليديين فى آسيا وعدم حمايتهم دون مقابل، وهو ما دفع تلك الأطراف للتحرك الأحادى بما يضمن أمنها القومى من خلال التسلح الذاتى وتبنى استراتيجيات عسكرية مستقلة عن واشنطن.فى هذا الصدد، يحذر نعوم تشوميسكى الكاتب والمحلل الأمريكى الشهير من أن أمريكا ستواجه مستقبلا مزيدا من العزلة فى آسيا ما لم يغير ترامب سياسات الانغلاق الذاتى التى تنتهجها إدارته الحالية ولا سيما فى جنوب شرق تلك القارة من منطلق ابتزاز الآخر والتعامل معه بمبدأ أقصى استفادة لجنى مصالح مادية لبلاده على حساب مصالح أهم لها تتمثل فى النفوذ السياسى والعسكري. ويضاف تشوميسكى أن ترامب إذا استمر على نهجه الحالي، فإن أمريكا قد تفقد نفوذها السياسى والعسكرى فى تلك المنطقة على غرار ما حدث فى أمريكا اللاتينية.ويشير تشوميسكى إلى أن سياسة الانفتاح نحو دول جنوب شرق آسيا التى انتهجتها إدارة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما أصبحت الآن مهددة وعلى المحك، ليس فقط بسبب انكماش الدور الأمريكى على أيدى ترامب، وإنما بسبب قوة اقتصاد الصين المنفتح الذى ساعدها على الهيمنة ليس فقط على أجزاء من القارة بل والعالم، وحذر من أن هذا الوضع سيقلص حتما نفوذ واشنطن لحساب بكين التى تنتهج الآن «دبلوماسية الديون». ولمزيد من الإيضاح، نشر مركز «بيلفر للعلوم والشئون الدولية» التابع لجامعة هارفارد الأمريكية مؤخرا دراسة بعنوان «دبلوماسية دفتر الديون» عرضت تحليلا عن المكاسب الاستراتيجية للصين من سياسة الإقراض وتأثيرها السلبى على المصالح الأمريكية ليس فقط فى جنوب وشرق آسيا وإنما فى العالم بأسره. وفى ظل هذه المعطيات، أدركت اليابان وكوريا الجنوبية الحليفتان الاستراتيجيتان لواشنطن أن ترامب بات يتعامل الآن بعقلية رجل الأعمال وليس رجل الدولة، وأن حساباته فى تأمين أمنهما القومى تعتمد على ما تجنيه واشنطن من مكاسب مادية منهما، وأن ترامب لن يتوانى عن التصالح مع كوريا الشمالية لمصلحة بلاده حتى وإن كان ذلك على حساب أمن حلفائه، وهو ما دفعهما مؤخرا لمزيد من التسليح الذاتى لتحقيق التوازن العسكرى مع كوريا الشماليةوالصين وروسيا.وكانعكاس طبيعى للموقف الأمريكى تجاه طوكيو، اضطر رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى فى 2018 لإقرار ميزانية دفاع هى الأكبر فى تاريخ البلاد، إذ بلغت 39 مليار يورو. واحتلت بذلك اليابان المرتبة السابعة فى ترتيب أكبر القوى العسكرية العالمية، لتضم قواتها البحرية 46 فرقاطة حديثة ومتعددة المهام، ولتصبح ثانى أكبر قوات بحرية فى آسيا بعد الصين. كما تعتزم طوكيو امتلاك صواريخ عابرة للقارات مثل توماهاوك القادر على تدمير الصواريخ الكورية الشمالية فى موقع إطلاقها.وأما كوريا الجنوبية، فقد عكفت مؤخرا، ولمجاراة القدرات النووية المتنامية لبيونج يانج على تعزيز ترسانتها العسكرية وتزويدها بأسلحة متطورة ك «القنابل الناعمة» التى اعتبرها الخبراء سلاح كوريا الجنوبية لشل الجارة المزعجة. وتعد هذه القنابل أسلحة غير مؤذية، لكنها تستطيع تعطيل قوة كوريا الشمالية اللوجيستية فى حالة اندلاع حرب.وفى النهاية، لم تعد الآثار السلبية لسياسة ترامب الانعزالية الحالية مقتصرة على تبنى حلفائه كاليابان وكوريا الجنوبية إستراتيجيات عسكرية مستقلة بعيدة عن أمريكا، بل تعدته إلى تهديد دول أخرى كالفلبين بالعصيان. وستكشف الأيام المقبلة مصير التحالف الآسيوي- الأمريكى فى ظل سياسات واشنطن الانعزالية.