ليس دقيقًا من يعتبر من المحللين والمراقبين للشأن السوري، أن قرار ترامب بالانسحاب هو لمصلحة طرف أو ضد طرف إقليمي، أو دعمً لهذا أو دحرً لذلك. فأمريكا لا تفكر بهذه الطريقة خصوصًا فى عهد الرئيس ترامب، رجل الأعمال الذى يحسب كل شيء على أنه صفقة تجارية لها أرباحها العظمى وخسائرها المحدودة، وباللغة السياسية فإن صانع القرار فى أمريكا يتسم بالبراجماتية أى الواقعية. فليس جديدًا أن تنسحب أمريكا من الأرض السورية وهى التى خلقت لها أشياعًا تتمثل فى قوات سوريا الديمقراطية وقوات داعش معها!، فقد سبق أن انسحبت من العراق، واحتفظت لنفسها بقواعد عسكرية حتى الآن، وانسحبت من الصومال فى عهد كلينتون بعد حادث مفاجئ راح ضحيته نحو (40) ضابطا وجنديا أمريكيا، ومن قبل انسحبت من فيتنام وأجبرت على توقيع اتفاقية باريس عام 1975م بعد عشر سنوات من الحرب تكبدت فيها خسائر وصلت إلى (60) ألف قتيل، بخلاف آلاف الجرحى! وكذلك انسحبت من أفغانستان فى عهد أوباما ولكن ظل وجودها حول العاصمة كابول، ومن جديد يعلن ترامب انسحابه من أفغانستان للتغطية على انسحابه من سوريا! إلا أن المراقبين لم يلتفتوا إلى هذا القرار لعدم أهميته! فمن الطبيعى إذن أن نتقبل المفاجأة الظاهرية بإعلان ترامب قراره بالانسحاب من الأراضى السورية، وذلك فى سياق فهم الانسحابات الأمريكية المفاجئة من أرض المعركة لكن الجديد هنا أنه يمكن فهم هذا الانسحاب فى إطار الانسحابات الأمريكية من تفاعلات النظام الدولي، فى عهد ترامب منذ أتى إلى السلطة. فهو أعلن بوضوح إما أن أقود العالم منفردًا وعلى الكل والجميع الطاعة، وإلا فالانسحاب من كل شيء، وترك كل الأطراف يغرقون!. هذا هو ما استطعت استخلاصه من جملة سلوكيات السياسة الخارجية الأمريكية فى عهد ترامب حتى الآن. على الجانب الآخر، هناك خسائر بشرية، وليست مادية فحسب، تعتبر أحد الدوافع الخفية وراء القرار الأمريكي، وسبق أن نبهت أن أمريكا قد تضطر إلى إعلان انسحاب مفاجئ جراء هذا الاستنزاف البشرى كل يوم فى قواتها فى الرقة وما حولها وفى منطقة وجودها وسيطرتها فى الشمال الشرقي. وقد صدق توقعي. ومع ذلك، يمكن القول إن ما يعانيه ويواجهه ترامب من متاعب داخلية، حيث التهديد الدائم بالإطاحة به، وهناك بوادر ومؤشرات تتجه نحو ذلك، فى الوقت الذى يتظاهر بأنه لا يبالى ولا يهتم!، فضلاً عن أنه يعد العُدة للاستمرار فى الحكم مدة ثانية، وعليه أن يجتاز العام الثالث بسلام دون الإطاحة به، للاستعداد للمعركة بنهاية عام 2020م، ولهذا الاستعداد بكل تأكيد مقوماته. فهو يخلق بهذا القرار البيئة الملائمة لخوض معركة الانتخابات الأمريكية وتجديد فترة رئاسته. فهو سيقوم بتوفير المليارات من الدولارات للشعب الأمريكي، يمكنه ضخها فى الاقتصاد، والتى كانت تصرف بالزيادة على التكاليف العسكرية المعتادة فى ميزانية الدفاع، كما أنه سيتفادى الخسائر البشرية فى القوات الأمريكية والحلفاء من داعش وقوات سوريا الديمقراطية وغيرها، ولعله عنصر مهم يؤثر فى الرأى العام الأمريكي. ولا ننسى أن الرأى العام فى أمريكا هو الذى أجبر نيكسون ومن قبله جونسون على الذهاب إلى محادثات باريس والانسحاب من فيتنام!. فالحسابات لدى ترامب فى مثل هذا القرار، تغلب العوامل الداخلية ومصالحه الشخصية ورغبته فى الاستمرار فى حكم أمريكا أربعة أعوام أخرى. ولا يعنيه أن محور المقاومة بذلك القرار الأمريكى بالانسحاب، قد حقق انتصارًا كبيرًا. حيث يبدو المشهد باعتبار أن المقاومة هى التى أجبرت ترامب على الانسحاب يجر أذيال الهزيمة، ويجر معه فى ركابه كل من وقف ضد سوريا شعبًا وجيشًا وقيادة. وأخيرًا أقول إن مليارات الدولارات ضاعت وتكسرت الإمبراطورية الأمريكية وتوابعها فى الإقليم على أبواب دمشق العصية على التفتيت والانكسار، وستظل سوريا رمز الكرامة والعزة العربية بل رمز المقاومة لدحر العدو الصهيونى بإذن الله. لمزيد من مقالات ◀ د. جمال زهران