أنهت بريطانيا عام 2018 الحافل بالتقلبات السياسية، بمشاهد درامية فى الجلسة الختامية للبرلمان البريطانى قبل عطلة أعياد الميلاد والعام الجديد، وذلك بعدما اتهم أعضاء حزب المحافظين الحاكم زعيم حزب العمال المعارض جيرمى كوربن ،بوصف رئيسة الوزراء تيريزا ماى ب«المرأة الغبية» أثناء مناقشة محتدمة بينهما حول البريكست. ومع أن كوربن نفى الاتهام، مشيراً إلى أنه قال «ناس غبية»، إلا أن أقلية صدقته. وخرج أعضاء البرلمان للعطلة وسط أجواء مشحونة واتهامات متبادلة وقليل من التوافق على أى شيء، بدءاً من البريكست حتى سياسات الهجرة، مروراً بملفات الاقتصاد وبرامج الدعم الاجتماعى والرعاية الصحية. ويشير عام 2019 إلى أنه لن يكون أقل استقطاباً أو «درامية»، بل ربما يكون «عام الانفجار» السياسى، بسبب قرب استحقاق خروج بريطانيا رسمياً من الاتحاد الأوروبى والمقرر فى 29 مارس 2019، واستمرار الخلافات الحادة داخل حكومة تيريزا ماى، وحزب المحافظين الحاكم، والبرلمان، والبلاد كلها. فداخل الحكومة، هناك فجوة تتسع بين الوزراء حول ما الذى يجب فعله إذا لم يصوت البرلمان البريطانى لصالح خطة البريكست، التى أتت بها تيريزا ماى من بروكسل. فهناك جناح بزعامة وزير الخزانة فيليب هاموند ووزيرة العمل والمعاشات آمبر راد يريدون «رمى الكرة» فى ملعب الشعب، وإجراء استفتاء ثان يقرر فيه البريطانيون أنفسهم مصير البريكست. وهناك جناح ثان بزعامة وزير البريكست ستيفن باركلى ووزير التجارة الدولية ليام فوكس وزعيمة المحافظين فى مجلس العموم اندريا لادسوم، يرفضون بشكل حاسم «الاستفتاء الثانى» ويريدون بدلاً من ذلك الخروج من دون اتفاق من الاتحاد الأوروبى بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية. ونفس هذه الشقوق العميقة تتواجد داخل حزب المحافظين، والبرلمان، والبلاد، حيث يكادوا ينقسمون بشكل قاطع بين خيار «الاستفتاء الثانى» و«الخروج من دون اتفاق». وأمام الغموض الحالى سيكون 2019 عام العواصف السياسية، ففى كل الحالات سيكون هناك قطاع واسع من الطبقة السياسية والشارع يشعر ب «الخيانة». كما أن كل الخيارات ملغومة وصعبة وتضع على المحك كثيرا مما اعتاد ان يأخذه البريطانيون كأمر مسلم به، مثل حرية الانتقال داخل أوروبا، وحركة الطيران، وحق العمل والعلاج، وتوافر الأدوية والسلع الأوروبية التى تدخل بريطانيا بدون تعريفة أو تفتيش او عوائق. وفى الأيام الأخيرة أعلنت الحكومة خطط طوارئ للتصدى لسيناريو الخروج بدون اتفاق مع أوروبا ورصدت 2 مليار جنيه استرلينى لتغطية تكلفة بعض الخطط، وهناك 3500 جندى بريطانى على أهبة الاستعداد تحسباً للحاجة لنقل أدوية أو مواد ضرورية أو الحفاظ على الأمن. وسيأتى 2019 وأمام الحكومة خيارات كلها صعبة فى ملف البريكست الملغوم من بينها: 1 العودة إلى بروكسل وطلب تنازلات جديدة: فاتفاقية الانسحاب صدق عليها مجلس أوروبا بحضور الزعماء ال27 فى 25 نوفمبر الماضى، ومن المستبعد أن يعاد فتح المفاوضات بشأنها. لكن من المحتمل أن يقدم الاتحاد الأوروبى تنازلات شكلية فى «الإعلان السياسى» النص غير الملزم قانونياً، لكن هذا لن يرضى الغالبية فى البرلمان البريطانى. 2 طلب تمديد المادة 50 من معاهدة لشبونة لمواصلة المفاوضات: هذا مرفوض من الكثير من أنصار البريكست، لأنه يعنى أن بريطانيا ستظل عضوة فى الاتحاد الأوروبى بعد مارس المقبل وملتزمة بكل الحقوق والواجبات، لكنه من ناحية براجمانية قد يكون الحل الأقل ضرراً، فتمديد المفاوضات قد يأتى بنتائج مرضية أكثر من خطة ماى. 3 النكوص عن البريكست كلياً: برغم أن هذا يبدو معقدا من الناحية السياسة، إلا أنه متاح قانونياً. فقد أصدر مستشارون فى محكمة العدل الأوروبية، قبل أسابيع حكماً يوضح ان بإمكان بريطانيا تجميد البريكست والنكوص عنه إذا أرادت. 4 الخروج بدون اتفاق: هذا «سيناريو انتحارى» فى نظر الكثيرين وليس هناك دعم له لدى الأغلبية فى البرلمان، بسبب آثاره الكارثية على الاقتصاد البريطانى، خاصة مع اعلان فيليب هاموند أن بريطانيا غير جاهزة لسيناريو الخروج بدون اتفاق وانها تحتاج عامين على الأقل للاستعداد. 5 إجراء انتخابات مبكرة: استطلاعات الرأى العام لا تقدم صورة مريحة لماى. وإذا أقدمت على اجراء انتخابات مبكرة، فمن المرجح أن يعاقبها الشارع بعدم التصويت لها. وبالتالى من المستبعد ان يصوت نواب حزب المحافظين لصالح إجراء انتخابات عامة مبكرة. 6 تغيير خيارات البريكست جذرياً: إذا سلمت ماى أن خطتها، أى الورقة البيضاء «ماتت» يمكن أن تبدأ التشاور مع البرلمان للتوافق على نموذجين آخرين مقترحين هما النرويج وكندا، على أن تبدأ مفاوضات مع الاتحاد الأوروبى بشأنهما، لكن ماى لم تعط أى مؤشر على أنها بصدد تغيير خياراتها. 7 إجراء استفتاء شعبى ثان: وهو خيار ينال دعما متزايدا من كل الأطراف، حتى من وزراء داخل الحكومة. لكن الاستفتاء الثانى لا يخلو من مصاعب لوجستيية وسياسية وقانونية. فأولا يجب أن تصوت غالبية البرلمان لصالح استفتاء ثان. وعندما يحدث هذا يجب أن يمر ما لا يقل عن 6 أشهر بين اقرار اجرائه فى البرلمان وتنفيذه على الأرض، وهذا يعنى أنه لا يمكن أن يقام إلا بحلول مايو أو يونيو المقبلين. ثانيا: ستكون هناك معضلة «أسئلة» الاستفتاء وخياراته. وهل يوضع بين الخيارات الخروج بدون اتفاق، والبقاء بعضوية كاملة، واتفاقية ماى»الورقة البيضاء» التى رفضها البرلمان. أما أسوأ ما فى الاستفتاء الثانى فهو أنه قد لا يحل سؤال العلاقة مع أوروبا. فالنتيجة قد تأتى متقاربة جداً، ما يعمق الشرخ الاجتماعى والسياسى ويظل «السؤال الأوروبى» معلقاً على رقبة البريطانيين لسنوات طويلة مقبلة. وتحت كل هذه السيناريوهات سيكون عام 2019 مفصليا فى التاريخ البريطانى.