من الذى سيفقد أعصابه أولاً فى لعبة «عض الأصابع» بين بريطانيا والاتحاد الأوروبى؟ هذا السؤال يلخص الإستراتيجية الحالية للحكومة البريطانية، بينما تدخل مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبى (بريكست) طريقاً مسدوداً. ففى أول اجتماع لرئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى مع أعضاء حكومتها بعد القمة الكارثية للاتحاد الأوروبى فى سالزبورج بالنمسا، قال وزير شئون البريكست دومينيك راب إن ماى أكدت خلال الاجتماع أنه بالنسبة لها «لا بديل عن خطتها للمفاوضات»، وذلك فى إشارة إلى الورقة البيضاء التى توصلت إليها فى يوليو الماضى فى اجتماع للحكومة فى مقرها الريفى فى تشيكرز.
وتابع راب نقلاً عنها: «لقد حان الوقت للقبض على أعصابنا فى مواجهة المعارضة من بروكسل»، مشيراً إلى رفض الاتحاد الأوروبى للكثير من النقاط الجوهرية فى خطة ماى، وهو رفض يشارك الاتحاد الأوروبى فيه، قوى سياسية عديدة فى بريطانيا على رأسها جناح البريكست الخشن فى حزب المحافظين، وأحزاب العمال والأحرار الديمقراطيين والقومى الاسكتلندى. ورغم المعارضة القوية من كل الأطراف، لم تتراجع ماى قيد أنملة عن خطتها رغم السخرية التى تعرضت لها فى سالزبورج بسبب تمسكها بأفكار غير عملية وغير قابلة للتطبيق. وتعترف ماى بالصعوبات «لقد قلت دائما ان هذه المفاوضات ستكون صعبة، خاصة فى مراحلها النهائية. وبينما يريد الجانبان التوصل إلى اتفاق، يتعين علينا مواجهة حقيقة أنه على الرغم من التقدم الذى أحرزناه، إلا أن هناك قضيتيان كبريين مازلنا متباعدين بصددهما»، وذلك فى إشارة إلى معضلة الحدود الإيرلندية وشكل العلاقات الاقتصادية بعد البريكست. يمكن تفسير إصرار ماى، وربما «تعنتها» فى نظر الكثيرين، بطريقتين: أولاً، إنه انعكاس حقيقى للمثابرة والعناد البريطانى المعروف. هذه الصفة لخصها الملصق التحفيزى الشهير «حافظ على هدوئك...وواصل المسيرة»، الذى أنتجته الحكومة البريطانية فى عام 1939 تمهيدا للحرب العالمية الثانية. وكان هدف الملصق هو رفع الروح المعنوية للجمهور البريطانى أمام التهديدات بالهجمات الجوية على المدن البريطانية الكبرى.الطريقة الثانية لتفسير إصرارها الحاسم هو أنها لا تملك أى خيار آخر. فالورقة البيضاء هى خيارها الوحيد، ولا يوجد لديها مساحة للمناورة ولا حتى لسنتمتر واحد. والتفسير الثانى هو الأكثر معقولية. تقف ماى وحدها، مسئولة عن أكثر المحادثات تعقيدا فى التاريخ البريطانى الحديث، محاطة برجال غاضبين فى بروكسل ووستمنستر، لديهم تفضيلات وخيارات متناقضة جدا. وكانت خطتها «الورقة البيضاء» بمثابة «حل فى منتصف الطريق» من أجل سد تلك الفجوة، لكنها أخفقت حتى الآن فى سد تلك الفجوة. سيناريو حافة الهاوية: ومع تعثر ماى فى نيل دعم أياً من مؤيدى البريكست الخشن فى حزبها أو قادة الاتحاد الأوروبى فى بروكسل، يبدو بشكل متزايد أن بريطانيا تتجه نحو «القفز من على حافة الهاوية» أى الخروج بدون اتفاقية. ومع تزايد احتمالية ذلك، نشرت الحكومة 77 ورقة فنية تفصيلية توضح آثار الخروج من الاتحاد الأوروبى من دون اتفاقية. ومن بين تلك الآثار: -احتمالات أن تتعطل حركة الطيران بين بريطانيا والاتحاد الأوروبى لأن تراخيص الطيران بين الطرفين لن يُصبح معترف بها. أى ستفقد شركات الطيران المرخصة من الاتحاد الأوروبى القدرة على العمل كلياً فى بريطانيا. كما ستفقد شركات الطيران المرخصة فى بريطانيا القدرة على تشغيل الخدمات الجوية داخل الاتحاد الأوروبي. وسيتعين فى هذه الحالة على شركات الطيران أن تطلب أذونات فردية للعمل مع الدول المعنية. وحضت الحكومة البريطانية بروكسل على الموافقة على أنه حتى بدون اتفاق يجب قبول معايير طيران كل منهما. غير ان الاتحاد لم يوافق على ذلك المقترح حتى الآن. كما حذرت ورقة حكومية آخرى من أن الركاب فى بريطانيا قد يخضعون لفحص أمنى إضافى عند تغيير الرحلات الجوية فى الاتحاد الأوروبى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد. -من ضمن الآثار ايضاً احتمال تعليق خدمات الحافلات والاتوبيسات ومن وإلى دول الاتحاد الأوروبي. -كما ستخضع الماشية المصدرة من بريطانيا إلى عمليات الفحص الصحي، وسيحتاج قطاعى الثروة الحيوانية والزراعية إلى شهادات لتصريح النقل، مما يضيف مستويات جديدة من الشروط والتعقيدات البيروقراطية والمالية. -أيضاً ستحتاج بريطانيا إلى موافقة الاتحاد الأوروبى لاعتمادها كمصدر، وهى عملية قد تستغرق أكثر من ستة أشهر. -تتضمن الأوراق الحكومية أيضاً تعليمات لشركات الأدوية بتخزين أدوية أضافية لمدة ستة أسابيع لضمان توفرها فى الأسواق فى حالة الخروج بدون صفقة. -ستستمر بريطانيا فى قبول الأدوية الجديدة التى تم اختبارها فى الاتحاد الأوروبى حتى لو لم يقم الاتحاد الأوروبى بالمثل. -يجب أن تبدأ الشركات البريطانية التخطيط لإجراءات التفتيش الجمركى الجديد بعد البريكست. -قد يفقد البريطانيون الذين يعيشون فى دول أخرى فى أوروبا إمكانية الوصول إلى الخدمات المصرفية والمعاشات التقاعدية فى بريطانيا. -قد يواجه منتجو المواد الغذائية العضوية عقبات جديدة أمام التصدير إلى الاتحاد الأوروبي. وتشدد الحكومة البريطانية على أن هذه التحذيرات تمثل خطط طوارئ من أجل مواجهة «السيناريو الأسوأ». ديناميات جديدة: وعلى الرغم من أن ماى تبذل أقصى جهدها لإعطاء الانطباع أن خطتها ما زالت حية، فى مواجهة معارضة قوية فى الداخل والخارج، أملاً فى أن يعطيها الاتحاد الأوروبى بعض التنازلات فى اللحظة الأخيرة، تدرك ماى أن عليها إيجاد بدائل آخرى لان كل المؤشرات توضح أن خطتها ستهزم فى مجلس العموم البريطانى حتى إذا وافق الاتحاد الأوروبى عليها. ويعزز الضغط على ماى لإيجاد بدائل آخرى فى حالة انهيار الورقة البيضاء أن خصومها فى الداخل طوروا بدائل، وأدخلوا ديناميكات جديدة لمعضلة البريكست من خلال مناورتين ذكيتين. فأنصار البريكست الخشن اتحدوا وراء صفقة للخروج من الاتحاد الأوروبى على غرار اتفاقية التجارة الحرة بين بروكسلوكندا. وفى رأى أنصار البريكست الخشن وعلى رأسهم ديفيد ديفيز وبوريس جونسون وجاكوب ريس موج فإن نموذج كندا مثالى بالنسبة لبريطانيا، فهو يعطى بريطانيا الكثير من مزايا السوق الموحدة ويلغى التعريفة الجمركية على أكثر من 90% من البضائع (من دون ان تكون بريطانيا عضواً فى السوق الموحدة أو اتفاق التعريفة الجمركية). كما لا يلزم ذلك النموذج بريطانيا بدفع مساهمة سنوية فى ميزانية الاتحاد، أو قبول قرارات محكمة العدل الأوروبية. وهذه كلها نقاط مهمة جداً فى نظر أنصار البريكست الخشن، لكن نقاط ضعف نموذج كندا أولا أنه لا يحل معضلة الحدود الإيرلندي، كما أنه لا يتضمن الخدمات المالية، وليس لديه ممر واسع لأفضل مزايا السوق الموحدة. فى مقابل ذلك، يطرح حزب العمال ثلاثة بدائل مختلفة لخطة ماي، وهى صفقة على غرار نموذج النرويج (البقاء فى السوق الموحدة والأتحاد الجمركي). أو إجراء انتخابات مبكرة فى حالة تعثر الحكومة فى تمرير صفقتها عبر البرلمان. (لا توجد شهية شعبية للانتخابات المبكرة فى بريطانيا) أو إجراء استفتاء ثان فى حالة رفض الحكومة إجراء انتخابات مبكرة. وفكرة الاستفتاء الثانى هى ما نالت حماسة منقطعة النظير من البعض، وخوف منقطع النظير من البعض الآخر. وبكل المعايير هى مقامرة بالنسبة لزعامة حزب العمال، فرغم أن الغالبية العظمى من أعضاء الحزب ومؤيديه صغار السن يريدون استفتاء ثانيا، إلا أن معاقل حزب العمال فى شمال انجلترا حيث الطبقات العمالية التى صوتت بكثافة لصالح البريكست، ترفض بشكل حاسم فكرة اجراء استفتاء ثان، وهو ما يضع حزب العمال وزعيمه جيرمى كوربن أمام خيارات حساسة. ومع عدم وجود إشارات على حل وسط قريب فى محادثات البريكست، ستعزز تيريزا ماى خطابها القومى ولغتها العدائية حيال بروكسل، ومع خطاب الحرب النفسية وشد الأعصاب، قد تتصور أن اجواء 1939 العدائية بين بريطانيا وخصومها الأوروبيين ما زالت حاضرة.