فى قاموس اللغة الإنجليزية ليس هناك كلمة يتمنى غالبية البريطانيين محوها من معجم اللغة أكثر من «بريكست»، أى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فمنذ صوت البريطانيون فى يونيو 2016 لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي، غرقت بريطانيا فى بحر البريكست العميق، بروافده المتلاطمة وتعبيراته المعقدة وسيناريوهاته الكارثية. ولا عجب أن تشير الإحصاءات الطبية إلى تزايد استهلاك مضادات الاكتئاب فى بريطانيا منذ البريكست. ولا عجب أن تتزايد معدلات الانتحار والجريمة. فالبريكست ليس فقط اختبارا سياسيا، بل هو نفسى وعصبى أيضاً. وبكل المعايير كان هذا الاسبوع هو الأكثر صعوبة فى بريطانيا منذ بدأت مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي. ففى يوم واحد استقال 7 من الوزراء والمسئولين فى الحكومة من بينهم وزير شئون البريكست دومينيك راب، ووزيرة العمل والمعاشات استير ماكفي. كما قدم عدد من نواب حزب المحافظين الحاكم على رأسهم القيادى البارز جاكوب ريس موج طلبا لسحب الثقة من رئيسة الوزراء تيريزا ماي، بينما انخفض الجنيه الاسترلينى لمعدلات قياسية. وخرجت الصحف بعناوين عريضة من بينها اعلان ماى »سأقاتل حتى النهاية«، فى تحذير لمعارضيها الراغبين فى الإطاحة بها من منصبها. نفق مظلم طويل وسواء كنت من مؤيدى البريكست أو من معارضيه، فإن طول المفاوضات وتعقيدها وعدم التوصل حتى الآن إلى اتفاق ترضى عنه جميع الأطراف، لا شك سيصيبك بقلق بالغ. لقد غلب البريكست على كل شىء وعلى كل نقاش حتى بات البريطانيون يتمنون الانتهاء من مجمل عملية التفاوض للحديث عن شىء آخر. عن اعتدال الجو فى نوفمبر، عن ضعف أداء منتخب الكريكيت، عن الأفلام السيئة التى تملأ دور السينما. تريزا ماى ..ومصير غامض لكن البريكست ما زال يحتل كل العناوين وهو يبدو مثل نفق طويل مظلم ليس له نهاية. الحرب الداخلية الضروس داخل حزب المحافظين، تترك البريطانيين فى حالة قلق أكثر من أى وقت مضي. والسبب أن عقارب الساعة لا ترحم، فأمام بريطانيا عملياً نحو ثلاثة أشهر قبل الخروج من الاتحاد الأوروبى فى مارس 2019. (لا أحد يعمل فى ديسمبر، فهو موسم الاحتفالات الذى ينسى فيه الجميع كل ما حدث فى الأشهر ال11 الأولى من العام). والتعثر المحتمل لمسودة الاتفاق النهائى ورفضها من قبل البرلمان يترك بريطانيا ضحية «بريكست حافة الهاوية»، أى الخروج بدون اتفاق، مع ما يتضمنه هذا من سيناريوهات مخيفة من بينها نقص الدواء، وتوقف رحلات الطيران، واضطرار البريطانيين للانتظار فى طوابير للتفتيش لدخول الدول الأوروبية، وقلة بعض المواد الغذائية. وقد أعلنت الحكومة بالفعل خطط طوارئ على رأسها تعليمات لشركات الأدوية بتخزين أدوية أضافية لمدة ستة أسابيع لضمان توافرها فى الأسواق. إضافة إلى تخزين المواد الغذائية، مع تحذير أن أسعارها قد ترتفع نحو 30% بعد البريكست بسبب التراجع فى سعر الجنيه الاسترلينى والتعريفة الجمركية التى ستفرض على الواردات من أوروبا فى حالة الخروج دون اتفاق. إضافة لتعليمات لشركات الطيران كى تستعد لسيناريو توقف حركة الطيران بين بريطانيا والاتحاد الأوروبى لأن تراخيص الطيران بين الطرفين لن يُصبح معترفا بها. وخضوع الركاب فى بريطانيا لفحص أمنى إضافى عند تغيير الرحلات الجوية فى الاتحاد الأوروبى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد. وتعليق خدمات الحافلات والاتوبيسات ومن وإلى دول الاتحاد الأوروبي. إضافة إلى احتمالات فقدان البريطانيين الذين يعيشون فى دول أخرى فى أوروبا إمكانية الوصول إلى الخدمات المصرفية والمعاشات التقاعدية فى بريطانيا. كما سيحتاج البريطانيين الراغبين فى السفر إلى أوروبا إلى البدء بتقديم طلب الحصول على تأشيرة قبل فترة من موعد السفر فى حالة الخروج من الاتحاد الأوروبى دون اتفاقية. لا يمكنك أن تلوم البريطانيين إذن على اللجوء لمضادات الاكتئاب، فبريطانيا بصدد الدخول فى أزمة سياسية -دستورية غير مسبوقة ربما منذ الحرب العالمية الثانية. تحت رحمة الأحداث إذا أصرت ماى على مسودة الاتفاق كما هى دون تعديل (وقد قالت إنها لن تعدل فيها أى شىء. كما يرفض الاتحاد الأوروبى بدوره أى تعديل)، فإن مسودة الاتفاق ستهزم فى تصويت البرلمان بشكل شبه مؤكد، ما يعنى أن تيريزا ماى ستجد نفسها مضطرة للاستقالة من منصبها بعدما وضعت كل رصيدها السياسى فى مسودة اتفاقية البريكست. وفى حال استقالتها سينتقل ملف البريكست من الحكومة إلى البرلمان وسيكون أمام البرلمان خيارات كلها صعبة من بينها الدعوة لانتخابات عامة مبكرة، وهذا خيار لا يحظى بدعم الكثيرين داخل حزب المحافظين. أما الخيار الثانى فسيكون إجراء استفتاء شعبى آخر على البريكست، وهذا خيار قد يعزز الانقسامات الحادة فى الشارع البريطاني. فيما الخيار الثالث هو الخروج بدون اتفاق أو القفز من على حافة الهاوية وهذا قد ُيدخل الاقتصاد البريطانى فى حالة ركود خلال أسابيع. أما الخيار الرابع فقد يكون مطالبة الاتحاد الأوروبى بتمديد الفقرة 50 من معاهدة لشبونة وإطالة مدة المفاوضات، وهذا خيار غير محبذ لدى قادة الاتحاد الأوروبى الذين يريدون أن يركزوا على قضايا أخرى ملحة غير البريكست. ورغم تمسك ماى برؤيتها وبمنصبها، فإنها لا شك ستكون »تحت رحمة« الأحداث. وأى شىء يمكن ان يحدث فى بريطانيا. فمسيرة البريكست عامرة بالمفاجآت. فتيريزا ماى يمكن أن تظل فى منصبها حتى 29 مارس 2019 موعد خروج بريطانيا رسمياً من الاتحاد الأوروبي، لكنها يمكن أن تغادر خلال أيام أو قبل نهاية 2018. ولأن مصير تيريزا ماى غير مؤكد، فإن مصير البريكست وبريطانيا أيضاً غير مؤكد.