* «الهرميل» تخرج فى الأزهر وكان يجيد الإنجليزية والفرنسية * موسى: أنشدت الشعر فى مكرم عبيد عندما زار جدى * فتحى البرادعى: سرايا جدى كانت جامعة سياسية
صمت رهيب يسيطر على الأحياء والأشياء، تسبقها رهبة إلى النفوس تملأ الحوائط والصدور، أقدام الحاشية والحراس تزلزل أركان القلعة، تزحزح السكون المسيطر على كل شىء يدخل بعدها صاحب الحضرة الخديوية الفخيمة، حاكم مصر، فى زينة وغلو، يترنح فى مشهد أسطورى ثم يقول: «كثيرا ماكان يخطر ببالى إيجاد مجلس شورى النواب; لأنه من القضايا المسلمة التى لاينكر نفعها ومزاياها أن يكون الأمر شورى بين الراعى والرعية، لذا افتتحت ذلك المجلس بمصر تتذاكر فيه المنافع الداخلية، وتبدى به الاراء السديدة وتكون أعضاؤه متركبة من منتخبى الأهالى ينعقد بمصر فى كل سنة مدة شهرين، وهو هذا المجلس المقدر عناية المولى، تم افتتاحه اليوم على يدنا الذى أنتم فيه أعضاء منتخبون من طرف الأهالى». بهذه الكلمات اختتم الخديو إسماعيل خطبة العرش فى أول انعقاد لمجلس شورى النواب عام 1866، رغم انحصار الترشح على العمد والمشايخ وأعيان البلاد، حتى صار جديرا بأن يسمى «مجلس الأعيان». وكان شكليا لا يملك صلاحيات من شأنها التأثير فى سلطة الحكومة، وغاب عنه التجار والصناع والمتعلمون مثلماغابت الصحافة ووسائل التوعية، لكنه شهد ميلاد أول برلمانى معارض فى تاريخ مصر عثمان الهرميل أحد نواب الغربية. زوجة عثمان الهرميل وأسرته ويروى المؤرخ عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر إسماعيل» ان الحكومة دعت أعضاء المجلس فى الهيئة النيابية الثالثة عام 1876 إلى الاجتماع لدور فوق العادة فى مدينة طنطا، بالتزامن مع مولد السيد البدوى، لبحث إبطال المقابلة أو إقرارها وهو القانون الذى يقضى بأن يدفع أصحاب الأطيان الضرائب على أطيانهم دفعة واحدة مقدما عن 6 سنوات فى مقابل أن تعفيهم الحكومة من نصف الضرائب مدى الحياة - وفى هذه الجلسة ظهرت روح المعارضة لأول مرة ممثلة فى الشيخ عثمان الهرميل أحد نواب الغربية وعمدة قرية محلة مرحوم، والذى أبدى موافقته على إعادة العمل بقانون «المقابلة» ولكنه عارض الحكومة وطلب منها توضيح نيتها فى الطريقة التى ستتبعها لرد المبالغ التى حصلت عليها عن طريق المقابلة، ووافق المجلس على طلبه وشكل لجنة للتوجه إلى وزارة المالية للإطلاع على البيانات التى طلبها نائب الغربية، وهى أول مرة تعرف فيها مصر فكرة الرقابة على تصرفات الحكومة، وإقرار مساءلة الوزراء أمام البرلمان. ورغم كبرياء الخديو إسماعيل الذى اتصف حكمه بالمطلق والذى لا يعرف مذهب المعارضة أو الديمقراطية وممارسة الحرية السياسية، رد على «الهرميل» خلال خطبته فى دور الانعقاد الأول، وأعلن أن إبقاء قانون المقابلة مبنى على قرار مجلس شورى النواب فى اجتماعه بطنطا، وذلك يعد مكسبا حقيقيا للبرلمان. عمرو موسى طفلا فى سرايا الهرميل - عمرو موسى ويؤكد «الرافعى» ان «الشيخ الهرميل» شارك مع الشيخ محمود سالم عمدة كفر سالم والنواب الاخرون، فى دور الانعقاد الثانى فى بحث الأضرار والخسائر التى أصابت الأطيان بسبب نقص مياه النيل، وقرروا تشكيل لجنة فى كل مديرية لتدارك هذه الحالة على قاعدة إمداد الحكومة للأهالى الذين شرقت أراضيهم بالتقاوى والبذور وتسليفهم ما يحتاجون إليه من المال. وكذلك معارضة الحكومة فى فداحة الضرائب التى أضرت بالأهالى، وما اضيف عليها من الضرائب الجديدة مثل ضريبة السدس، وضريبة الرى وهى تمثل 10% من قيمة الأموال، وانتهى المجلس إلى تخفيضها وإلغاء بعضها. فمن هو عثمان الهرميل؟ كان هذا هو السؤال الذى شغلنا. قطعنا مسافة طويلة عن مدينة طنطا، حيث تقع قرية «محلة مرحوم» التى شهدت ميلاد المعارض البرلمانى الأول «عثمان الهرميل» للتعرف على أطوار حياته. واجهتنا الصعوبة البالغة فى العودة للوراء140 عاما من الزمن الذى بقيت منه ذكريات تبدو غير واضحة، «سرايا» منهدمة، وجسد تناثر تحت الثرى.. وعن حياة «الهرميل الكبير» يؤكد العميد إيهاب الهرميل من عائلته ونائب سابق ان جدهم عاصر فى حياته اخر عهد الخديو إسماعيل وعهد توفيق، وتلقى تعليمه فى الكتاب والأزهر الشريف، كما حصل على الإجازة وقسط كبير من التعليم. ونشأ على يد مربيتين إحداهما فرنسية والأخرى إنجليزية، وأجاد اللغتين الإنجليزية والفرنسية بجانب العربية، وأنشأ مسجدا فى القرية. وتوفى فى الثمانينات من عمره، ودُفن بمسجد السويدى فى حى الجامع الكبير بمحلة مرحوم تاركا ابنه «حسين» الذى أكمل مسيرته وأصبح نائبا هو الاخر لتمتد ذريته إلى الحفيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق. وقال عمرو موسى فى تصريحات خاصة ل «الأهرام» إن الهرميل، جده لأمه، كان له تأثير كبير على الأعيان وأسرته وجيرانه والمديريات المختلفة وأصحاب الأطيان داخل البرلمان وخارجه فى القرن ال 19، وصاحب كلمة مسموعة لديهم، ووطنى من طراز فريد حركته المصلحة العامة وحدها. والشيخ عثمان أنجب 6 بنات و4 أولاد، وكان عضوا أيضا بمجلس شورى القوانين فى عهد الخديو توفيق، وواصل مسيرته ابنه «حسين» وهو والد أمى، وخلال فترة طفولتى بعد السنة الخامسة مرض والدى ونصحه الأطباء بهواء الريف، فلبينا دعوة جدى حسين بالإقامة فى «محلة مرحوم» وخصص لنا جناحا بسراياه التى كانت تشهد حالة حراك سياسى ويقام فيها الكثير من اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات وتناقش بداخلها القضايا المتعلقة بشئون مصر والقضاء والوحدات. وكانت لديه عزوة كبيرة فى هذه المنطقة، فزوج ابنته كان السيد حسين حمودة نائب الدائرة المجاورة (برما) عن الأحرار الدستورين، وإبن أخته فوزى البرادعى كان نائبا عن الوفد، وغيرهما من أنسابه وكانوا يتوافدون جميعا لزيارته فى المناسبات. حسين عثمان الهرميل ويتابع خلال تلك الفترة التقيت بعض زعماء حزب الوفد الكبار، والاستماع إلى مناقشاتهم وخطبهم، وفى إحدى المرات جاء لزيارة جدى مكرم عبيد باشا وأنشدت أمامه نشيدا للترحيب يقول فى مطلعه «أهدى لمكرم باشا وردا ومن خلال جدى كنت أهتف فى الحملات الانتخابية الخاصة به، وشجعنى على ذلك استقبال الجماهير المؤيدة له، وكانت هذه الفترة تشهد ثراء سياسيا.. قائلا: «أنا الجيل الرابع بالنسبة لجدى الهرميل». ويضيف ان جده عثمان لم يكن من ملاك الأراضى الكثيرة، ومنصبه كعمدة كان مركزا قويا، ومقره كان جاهزا للضيوف سواء أجانب أو مصريين. سرايا الباشا عثمان الهرميل تحطمت أسوارها وتهدمت أركانها، وبقى تاريخها ممتدا لخمسة عشر عقدا من الزمن، فكانت جامعة سياسية فريدة من نوعها، سابقة لعصرها، تشبه قصر عابدين». هكذا يقول الدكتور محمد فتحى البرادعى وزير الإسكان الأسبق وحفيد عثمان الهرميل من الأم. ويشير إلى ان السرايا تخرج منها أحفاده ومعظمهم سياسيون بارزون، ومسئولون تقلدوا مواقع مهمة فى تاريخ مصر بجانب عمرو موسى، وأبرزهم ابنه النائب حسين الهرميل، وابنه الاخر صبحى الهرميل رئيس بالسن فى برلمان 1957، وهو أول برلمان بعد ثورة 52، وأحفاده النواب شفيق الهرميل ومصطفى الهرميل وإيهاب الهرميل، وزوج حفيدته الفريق محمد إبراهيم حسن سليم رئيس أركان حرب القوات المسلحة من 1952 إلى 1959.. ويشير إلى إن حسين الهرميل كان مثقفا جدا ومهتما باللغة العربية والخط العربى، وهو الأكثر تأثيرا فى حياة موسى.. كما كانت جيهان الهرميل زوجة عثمان الهرميل لها الأثر العميق فى نفوس أولادها وأحفادها، حتى أصبحوا جديرين بهذا التاريخ السياسى والبرلمانى خلفا للشيخ عثمان. فتحى البرادعى