العشرات بل المئات من المواطنين يحاكمون سنويا بتهمة إهانته، منهم من تفرض عليهم غرامات مالية ، وآخرون يعاقبون بالسجن ، لكن عندما يوجه هو السباب والتجريح لخصومه وحتى المؤسسات الكبرى كالمحكمة الدستورية، التى أعلن على الملأ عدم احترامه لحكم أصدرته لم يعجبه ،لا توجه ضده كلمة عتاب واحدة بل يجد دائما التأييد. تلك هى الجمهورية الكمالية بعد أن جثم على صدرها حزب العدالة والتنمية طوال الست عشرة سنة الأخيرة. ويالها من مفارقة فمؤسسها أتاتورك ، وقبل خمسة وتسعين عاما تمكن من نقل البلاد إلى حداثة القرن العشرين بكل ما تحمله من معان ، إلا أن أردوغان يعيدها وبشكل ممنهج إلى ثيوقراطية القرن التاسع عشر. فقبل أيام دعا الإعلامى فاتح برتقال، من خلال شبكة فوكس تى في، المواطنين إلى الاحتذاء بمتظاهرى السترات الصفراء، ورغم أن الآلاف من المواطنين كانوا قد سبقوا دعوة برتقال وخرجوا بالفعل إلى شارع استقلال الشهير بوسط إسطنبول ينددون بالغلاء وتدهور أوضاعهم المعيشية ، إلا أنه تعرض لهجوم شديد قاده رئيس الجمهورية نفسه زاعقا أمام حشد من أنصاره « من أنت ؟ فلتلزم حدودك، وإن كنت تجهل حدودك فإن هذا الشعب سيصفع قفاك». هكذا بكل بساطة ، كان خطابه ، وقد أثارت تلك العبارات المهينة جموع الصحفيين وخرج نقيبهم هوكهان دورموس للرد بغضب قائلا إن استهداف الرئيس للصحفيين بهذه الطريقة يعنى أنه لم يعد يُكن الاحترام لمهنة الصحافة ، وأضاف «أن اللغة التى يستخدمها أردوغان لا يصح لرئيس دولة استخدامها». وبدوره أفاد رئيس جمعية الصحفيين المعاصرين، جان جولار يوزلو، بأن السلطات التركية والأوساط المقربة لها تعمل منذ فترة على إسكات الإعلام المستقل، وكذلك أى نقد يوجه ضدها. غير أن خطورة الأمر لا تقتصر على فجاجة الألفاظ وقسوتها، بل فى كونها دعوة تحريضية صريحة للاعتداء على الإعلاميين من قبل ميليشيات الحزب الحاكم التى سبق وقامت بأفعال مشينة ضد معارضى أردوغان فى وضح النهار دون أن يساءلوا وهو ما شدد عليه الكاتب الصحفى بجريدة «سوزجو» دنيز زايراك ، حينما نوه إلى أن برتقال أصبح مستهدفًا بشكل علني، والأخير أعلن أنه يخشى على سلامته، وفى حالة إصابته بأى مكروه فإنه سيحمل المسئولية لمن وجهوا له التهديدات. تركيا إذن صارت دولة يسكنها الخوف، صحيح حالة الطوارئ تم رفعها غير أنها مازالت قائمة وإن أخذت مسميات أخرى، المذهل أن ما جرى خلال العامين الماضيين كان مريعا وها هو يتكشف شيئا فشيئا من مشاهدها السماح لجهاز الاستخبارات بإجراء عمليات غير قانونية كالخطف والتهديد بالقتل، سواء داخل البلاد أو خارجها دون أدنى مساءلة قانونيةوكيف أنها سمحت لأردوغان بإصدار مراسيم لها قوة القانون، أحدثت على مدى عامين تغييرًا عميقا فى التشريعات التركية، هذا إلى جانب إغلاق 200 وسيلة إعلامية وحجب آلاف المواقع والمدونات الإلكترونية، واعتقال 319 صحفيًّا، وصدور مذكرات اعتقال بحق 142 صحفيا آخرين مشردين خارج البلاد. وفى أحد تقاريره كشف حزب الشعب الجمهورى المعارض عن انتحار 60 شخصًا على الأقل من الذين اتخذت ضدهم إجراءات غير قانونية فى إطار التحقيقات، بينما أقدم 4 أشخاص على محاولة الانتحار ووقعت 8 من هذه الحالات داخل السجون وأثناء الاعتقال. والآن تركيا الأردوغانية موصومة بالتعذيب والمعاملة اللاإنسانية للمواطنين فى المعتقلات والسجون، وقبل التفكير فى العودة إلى مصاف البلدان المتحضرة ، عليها إتاحة فرصة تواصل المحتجزين مع محاميهم، والتحقيق بشكل شامل وفعال فى حالات إساءة استخدام السلطة من قبل الحكومة، وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين وخاصة الصحفيين، وكذلك إسقاط جميع التهم الموجهة للمسجونين، وإعادة الأصول المالية التى تم الاستيلاء عليها من غير حكم قضائى باتّ ، إلى أصحابها الشرعيين، وتعويضهم عما لحقهم من ضرر مادى ومعنوي، وكذلك ضمان محاسبة المسئولين الحكوميين الذين أساءوا استخدام مناصبهم السياسية.