هل نحن نعيش الآن عصر ما بعد الحقيقة؟ العصر الذى ليست الغلبة فيه لمن يقول الحقيقة، وإنما لمن يعرف كيف ينشر ما يقوله على أوسع نطاق..العصر الذى قد تكون فيه الحقيقة الافتراضية، أو الواقع الافتراضى، أشد تأثيرا من الواقع الفعلى..هذا ما يعتقده البعض. إذا كان هذا صحيحا فإن رئيس الولاياتالمتحدة الحالى دونالد ترامب هو بلا شك أكثر الرؤساء الأمريكيين تجسيدا لهذه الحقيقة، وأعتذر أننى مازلت بالرغم من ذلك أستخدم كلمة الحقيقة فى هذا السياق، فأنا لا أجد بديلا عنها. لقد عمد ترامب منذ توليه الرئاسة لمهاجمة الصحافة والإعلام اللذين ناصباه العداء طوال فترة حملته الانتخابية، وأصر على وصف مايقدمانه للرأى العام بأنه أخبار مزيفة fake news، مؤكدا أن الحقيقة هى ما يقدمه هو، وقد دفع ذلك الكثيرين فى مجال الإعلام لتتبع تصريحات ترامب بشكل دورى وحصر ما تتضمنه فى كل مرة من أكاذيب لا حصر لها، لكن يبدو فى عصرنا هذا أن الحقيقة فى حد ذاتها لا حول لها ولا قوة، وربما كان هذا هو حال الحقيقة فى كل العصور، فقد عرفنا فى أثينا الفيلسوف الذى كان يحمل المصباح ويسير فى الطرقات فى وضح النهار قائلا إنه يبحث عن الحقيقة، لكن لم نعرف بعد ذلك من وجدها، وإن وجدها فهى على ما يبدو ضعيفة عرجاء. وإذا كانت تصريحات ترامب تلقى ذلك القبول وتحقق ذلك الانتشار، فهذا لا يعود إلى أنها صادرة عن رئيس أقوى دولة فى العالم، وإنما يعود أيضا إلى أنه اختار أن ينشر وجهة نظره مستخدما وسائل العصر الحديث الأوسع انتشارا والأكثر تأثيرا، وهى وسائل التواصل الاجتماعى، وبشكل محدد التويتر الذى يفضله، فأصبح يتصدى لمقالات النيويورك تايمز أو الواشنطن بوست بتغريداته التى لا تتعدى بضع كلمات تصل مباشرة الى الناس باعتبارها الحقيقة فى مواجهة الزيف الذى تنشره الصحف. وإذا انتقلنا الآن إلى منطقتنا العربية، ونظرنا بشكل محدد إلى القضية الفلسطينية، فسنجد حقائق القضية تقول إن الشعب الفلسطينى طرد من أراضيه وصودرت ممتلكاته، وتم تحويل أبنائه إلى لاجئين مشردين فى مختلف أنحاء العالم، وأن المستوطنين الذين جاءوا الى أرضه فى فلسطين من مختلف أنحاء العالم يقومون الآن باضطهاد من بقى من الفلسطينيين داخل الدولة، ويعملون على إبادتهم بشتى الطرق، إذا كانت هذه هى الحقيقة التى نعرفها نحن العرب فهل هى الحقيقة التى يعرفها العالم؟ هل هى الحقيقة النابعة من الوقائع التاريخية التى عرفتها المنطقة ابتداء من نكبة 1948 وحتى الآن؟ إنك إن سألت الرجل العادى فى أوروبا مثلا عن الصراع العربى الإسرائيلى فسيقول لك إن اليهود يريدون أن يعيشوا فى سلام داخل دولتهم الصغيرة لكن العرب يناصبونهم العداء ويريدون القضاء عليهم، وإذا سألته عن الصراع الفلسطينى الإسرائيلى بشكل محدد فسيقول لك إن الفلسطينيين الذين ينتمون لجماعة حماس الإرهابية فى غزة يقذفون الإسرائيليين بالصواريخ كلما استطاعوا، وإذا سألته عن المجازر التى ترتكبها إسرائيل بشكل دورى ضد الفلسطينيين العزل فى غزة قال لك إنها دفاع عن النفس، ووسط هذا الحديث تضيع مسألة الاحتلال، ويضيع حق الفلسطينيين فى الكفاح من أجل التحرر والاستقلال، وهو ما عرفته بقية شعوب العالم، وتضيع الشرعية الدولية، وتضيع قرارات الأممالمتحدة، أى تضيع الحقيقة، فالحقيقة لا تهم، لأنها تنتمى لعصور أخرى، وقد تخطينا تلك العصور وأصبحنا نعيش الآن عصر ما بعد الحقيقة. على أن ذلك كله يدفعنا للسؤال: هل يمكن أن ينقلب السحر على الساحر؟ أى هل يمكن لمن يملكون الحقيقة، ومن مازالوا يؤمنون بقوة وجدوى الحقيقة أن يستخدموا نفس وسائل العصر لنشر الحقيقة بين الناس كما تنشر الأكاذيب وعلى نفس النطاق الواسع؟ ربما كان هذا الاحتمال هو الذى دفع من يحاربون الحقيقة إلى العمل فى الماضى على السيطرة على وسائل الاتصال الجماهيرى بحيث يحولون دون وصول الحقيقة إلى الرأى العام، وإلى العمل على نشر الحقيقة الزائفة إذا جاز لنا أن نستخدم تعبير ترامب، بحيث تكون السيادة للأكذوبة وليس للحقيقة، لكن انتشار وسائل التواصل الاجتماعى فى العصر الحديث كسرت احتكار الصحافة والإعلام وأصبح التواصل مع الرأى العام متخطيا الإعلام القديم متاحا للجميع، وهذا هو ما فهمه ترامب فأصبح يستطيع أن يهاجم الصحافة أو يقاطعها إذا أراد وفى نفس الوقت يتواصل مباشرة مع الرأى العام، وإن كانت الحقيقة قد ضاعت ما بين الاثنين، فلا هى فى أكاذيب ترامب على التويتر ولا هى فى مقالات الصحافة الأمريكية، لأن المعركة بينهما ليست على من يملك الحقيقة وإنما على من يملك نشر وجهة نظره بشكل أوسع وأكثر تأثيرا، فالحقيقة لا تهم لأننا فى عصر ما بعد الحقيقة. فهل يمكن لنا فى العالم العربى مع رفضنا دونالد ترامب أن نجد فى تجربته مع ما يسميه الأخبار الزائفة ما يمكن أن يفيدنا؟ هل يمكن أن نتخطى الأكاذيب التى ظلت تنتشر حول قضيتنا طوال ما يقرب من قرن من الزمان منذ وعد بلفور المشئوم، لننشر الحقيقة التى نعرفها، مستخدمين بدلا من الخطب والشعارات وسائل هذا العصر.. عصر ما بعد الحقيقة؟! لمزيد من مقالات محمد سلماوى