كان العرب فى الجاهلية لا يعرفون من الموسيقى سوى أغانى الحداء التى يضبطون بها إيقاع سير الإبل فى القافلة. وبعد الفتوحات العربية واستجلاب الأسرى والعبيد من مناطق مختلفة فى العالم، وفدت معهم موسيقى الأحباش والفرس والروم والويندال، ثم تشكلت الموسيقى العربية من جماع كل ذلك. هذا هو التنوع الثقافى. وهو الذى يعنى التعدد وفى الوقت نفسه يتيح إبداع ما هو جديد. ويبدو الأمر وكأنه مسألة طبيعية أو كما نقول سنة من سنن الحياة. ولكن إذا كان الأمر كذلك لماذا تحتاج الأممالمتحدة ومنظمة اليونسكو لإصدار اتفاقية لحماية وتعزيز التنوع الثقافى؟. فيما يبدو أن هذا التنوع الثقافى مهدد، وإذا لم نلتفت إلى هذا الأمر فسنجد أنفسنا قد أصبحنا فقراء ثقافيا تماما كما هو الحال مع التنوع البيولوجى والذى يمكن رصد ما يتعرض له من تهديد من خلال الأنواع الحية التى تنقرض بايقاع سريع أمام أعيننا. ولكن من أين يأتى هذا التهديد الذى يتعرض له التنوع الثقافى؟ من مصادر كثيرة فى الحقيقة، أهمها تطغيان ثقافة الدول القوية ومحاولاتها طمس ثقافة الدول المقهورة، ولعلنا نتذكر محاولات فرنسا الاستعمارية فى القضاء على ثقافة الشعب الجزائرى. والسبب الثانى هو اخضاع المنتجات الثقافية لمنطق السوق، أى انتاج سلع ثقافية لكى تدر أرباحا، ويمكن أن نرى ذلك فى دول أوروبا حيث يرفض أصحاب دور السينما عرض الأفلام التى تنتجها بلادهم لأنهم يجنون من أفلام «الأكشن» الأمريكية أرباحا أكثر. السبب الثالث هو ميل الدولة فى بعض المجتمعات إلى تسييد ثقافة واحدة وهى ثقافة الأغلبيةعلى جميع السكان وتهميش باقى الثقافات الأخرى والنظر إلى اختفائها بعين الرضا، ناسين أن هذه الثقافة القومية فى سياق العولمة المتسارعة سوف تتحول بدورها إلى ثقافة هامشية فى طور الاختفاء. ويبقى السؤال: لماذا ينبغى الحرص على حماية التنوع الثقافى؟ وما الضرر فى أن تسود ثقافة واحدة أو ثقافات قليلة طالما تم ذلك بالاختيار الحر للناس؟ ولماذا الحرص والتاريخ يبين لنا أنه فى مساره الطويل تختفى ثقافات وتنشأ أخرى. تتجه اتفاقية التنوع الثقافى إلى اعتبار هذا التنوع ثروة يملكها البشر، وينبغى بذل الجهد لكى نصونها من التبديد. بالضبط كما ننظر إلى الآثار الفرعونية او الصينية أو اليونانية على أنها ملك للإنسانية وليس ملكا لهذه الدول، ننظر بالطريقة نفسها إلى كل الثقافات مهما يكن حجمها وتأثيرها على أنها تراث إنسانى مشترك وليس ملكاً للدولة الحاكمة. من جهة أخرى الثقافة هى وسيلة يعبر بها الإنسان عن هويته، وفى زمن نسعى فيه إلى تكريس حقوق الإنسان والاعتراف بها وعلى رأسها الحق فى التعبير، سوف يكون التعبير عن الثقافة الخاصة بالإنسان. ما الذى يمكن للدول أن تفعله لكى تسهم فى حماية وتعزيز التنوع الثقافى؟ الأساس فى الأمر أن الثقافة ينتجها الشعب، لا تنتجها الدولة. وكان للدولة فى التصور الليبرالى الكلاسيكى ثلاث مهام فقط: الأولى هى دفاع عن الوطن من خلال الجيش. والثانية هى توفير الأمن الداخلى من خلال الشرطة، والثالثة فض المنازعات بين المواطنين من خلال القضاء. أما فيما يخص التعليم والصحة وغيرهما، فالأمر يترك للمجتمع ينظمه كيفما شاء. لكننا نلاحظ اليوم أن جميع الدول على اختلاف النظم السياسية تضطلع بمسئوليات تجاه التعليم والصحة، وتوفر لهما الميزانيات اللازمة. كذلك الحال مع الثقافة، على الدولة مسئوليات ينبغى أن تقوم بها، وفى هذا الإطار يصبح الحفاظ على التنوع الثقافى مهمة من مهام الدولة يمكنها أن تحقهها من خلال القوانين ومن خلال توفير التمويل والإتاحة عبر النشر والتوزيع. ولهذا الدور الذى تقوم به الدولة هدفان: الأول سياسى، يتضمن الاعتراف المتبادل بين جميع المواطنين على اختلاف ثقافاتهم، مما يجعل هذا الاعتراف والسماح بحرية التعبير عاملا من عوامل التماسك الاجتماعى وإثراء هوية الأمة وليس كما كان ينظر إليه من قبل على أنه تفكيك لوحدة الأمة. الهدف الثانى اقتصادى ويسعى إلى ربط الثقافة بعملية التنمية المستدامة من خلال فتح المجال للإبداع الثقافى الذى يزيد من ثروة الأمة داخليا وخارجيا، خصوصا وإن من واجبات الدولة أيضا طبقا للاتفاقية الانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى من خلال سياسات التعاون الثقافى والترجمة. ومثل كل اتفاقيات الأممالمتحدة صيغت اتفاقية حماية وتعزيز التنوع الثقافى فى إطار منظمة اليونسكو فى عام 2005 ووقعت عليها مصر فى عام 2006 وأصبح عدد الدول الموقعة عليها حتى اليوم 145 دولة. والهدف من مؤتمراتها الدورية هو أن تبين كل دولة أنها تمضى مع الوقت قدماً فى تحقيق بنود الاتفاقية، وتتولى مصر رئاسة مؤتمرها هذا العام 2018. لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث