فى عام 2005 طرحت منظمة اليونسكو اتفاقية دولية بعنوان حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافى، وقد انضمت مصر لهذه الاتفاقية عام 2007، وبلغ اليوم عدد الأطراف الموقعة عليها إلى 145 دولة . والواقع أن تنوع أشكال التعبير الثقافى ظاهرة تبدو بديهية وعفوية. ويكفى أن نستعرض أساليب التلحين المختلفة لدى ملحنينا الكبار، أو الاتجاهات الفنية المختلفة لدى مخرجى السينما. وهذا يعنى أن حرية التعبير والإبداع هى المصدر الأول للتنوع الثقافى. فلكل فنان ثقافته الخاصة ومقدرته الفنية وقضاياه التى تشغله. أما المصدر الثانى فإنه يأتى من اعتبار الأمة، أى أمة، هى مزيجا مركبا من عناصر مختلفة أى من مجموعات بشرية متنوعة، لها ملامح ثقافية خاصة، قد تتمثل فى لغات أو أديان أو أزياء أو طرق فى العيش، ويكفى أن نستعرض الموسيقى النوبية والملابس البدوية وسجاد أخميم وكرداسة حتى نحيط بهذا التنوع الكبير الذى هو بالتأكيد موجود بصورة أو بأخرى لدى كل الأمم. التنوع الثقافى إذن واقع تفرضه طبيعة الأمور فى كل مجتمع. فما الداعى إذن لعمل اتفاقية تهدف إلى حمايته وتعزيزه؟ لاشك أن هذه الاتفاقية قد جاءت نتيجة لشعور عام ساد أخيرا بأن التنوع الثقافى يتعرض لتهديدات عديدة: أول هذه التهديدات نابع من تقدم التكنولوجيا وثورة الاتصالات الذى قد يشجع على التنميط وفرض الهيمنة الثقافية للدول الغنية، ثانيها نابع من ميل الحكومات إلى إعطاء الأولوية لحل المشكلات الاقتصادية وتهدئة الصراعات السياسية على حساب الاهتمام بالثقافة، وثالثها هو ضيق بعض المجتمعات بالثقافات الخاصة وسعيها لكبتها وتهميشها لمصلحة ثقافة واحدة تكون فى الغالب هى ثقافة العاصمة. والنتيجة السلبية لهذه التهديدات لو تحولت بالفعل إلى واقع سوف تكون إفقاراً للمشهد الثقافى العالمى مما يحرم البشرية بأسرها من رصيد هائل تحتاج إليه لتجاوز أزماتها الوجودية. هناك حقيقة أساسية تتمثل فى أن الشعب هو الذى ينتج الثقافة وليس الدولة، ولكن اتفاقية التنوع الثقافى باليونسكو هى اتفاقية بين دول، فما دخل الدولة إذن بالثقافة؟ هنا نتطرق إلى ما يسمى بالسياسات الثقافية، وهى تعنى استخدام الدولة للموارد المادية ولوجود العاملين بها فى مواقع إصدار القرارات من أجل العمل على تعزيز التنوع الثقافى وليس على قهره أو منعه. ومن هنا فالاتفاقية تلزم الدول بالسير فى هذا الطريق مع احترام الاتفاقات الدولية الأخرى مثل حقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين وتبنى الديمقراطية. كما أن الدولة يمكن أن تكون عاملاً فعالاً فى تشجيع التفاعل الثقافى بين الأمم على المستوى العالمى. وتستطيع الدول بسياستها الثقافية أن تحول التهديدات السابقة إلى طموحات وآمال، فالتكنولوجيا وثورة الاتصالات تتيح فضاءً رحباً يسمح لأعداد كبيرة من مختلف بلاد الدنيا بالتعرف على إبداعات فنية لفنانين مجهولين معزولين داخل قراهم الصغيرة فى بلادهم الفقيرة، وهذا يحدث بالفعل. ولكن تظل هناك مشكلة أخرى تتعلق بحقوق الملكية الفكرية لهؤلاء الفنانين الصغار المكافحين الذين هم ضحايا هذا التجاهل. ويرى الموسيقار الفرنسى جان ميشيل جار رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الملكية الفكرية فى فرنسا أن الإنترنت أصبح أكبر وسيط أمام الناس للاستمتاع بالأعمال الفنية ورغم ذلك فإن ما يحصل عليه الفنانون من حقوق من الإنترنت لا يتجاوز 7%. ولو تمكنت الدول الأعضاء فى الاتفاقية من وضع صيغة قانونية لإلزام مواقع الإنترنت بدفع الحقوق فإنها سوف تكون فرصة كبيرة لصغار الفنانين وللصناعات الثقافية التقليدية حيث ستزداد المردودية الاقتصادية للمنتج الثقافى وبالتالى يكون عنصراً مهماً فى التنمية المستدامة.المهم أن التزام الدول الأعضاء بهذه الاتفاقية يدفعها إلى نشر مناخ من الحرية والتسامح داخل المجتمع ومناخ من الانفتاح على الثقافات الأخرى، ومد جسور للتعاون والتنسيق بين الدولة ومنظمات المجتمع المدنى العاملة فى مجال الثقافة. ولكن يبقى هناك هاجس مؤرق يتمثل فى حذر من أن تستغل دعوة الدفاع عن التنوع الثقافى لأغراض سياسية تهدف إلى تفكيك النسيج القومى. لقد انتبهت الاتفاقية إلى هذا التخوف، فأكدت فكرة السيادة وعدم التدخل لكنها تعول على مبادرات الدول نفسها إلى تعزيز التنوع الثقافى داخلها من منطلق أن التنوع مصدر قوة وثراء للمجتمع ولا يتعارض مع وحدة الدولة، فضلاً عن أنه يشجع على السلام الاجتماعى داخل الأمة وعلى السلام العالمى بين الأمم. كان الاجتماع الأخير الذى عقد فى الفترة من 11 إلى 15 يونيو الحالى بمقر منظمة اليونسكو بباريس للدول الأعضاء فى الاتفاقية يناقش كيفية التعاون بين الدول ومنظمات المجتمع المدنى فى الحفاظ على التنوع الثقافى، كما يناقش سبل حماية وتعزيز التنوع الثقافى فى المجال الرقمى، وفى الاجتماع الأخير تم تجديد أعضاء اللجنة الحكومية الدولية المكونة من أربعة وعشرين عضواً ووظيفتها متابعة تنفيذ هذه الاتفاقية على مستوى العالم. وقد فازت مصر بعضوية هذه اللجنة فى الأسبوع الماضى . لمزيد من مقالات د.انور مغيث;