تتسم الفلسفة بأنها الخطاب الذى ينشأ فى قلب ثقافة خاصة، ولكنه يتوجه إلى كل البشر فى مختلف الثقافات. وهذا ما يفسر لنا وجود نصوص أفلاطون وأرسطو وغيرهما من الفلاسفة، ووجود شروح وتعليقات عليها فى كل الثقافات مثل الصينية والهندية والروسية والعربية واللاتينية. وقد حافظت الفلسفة على هذه السمة على مدى خمسة وعشرين قرنا من الزمان. ويدفعنا المستقبل الذى ينتظرنا نحن الشر إلى التمسك بهذه السمة لأنها ربما تكون هى طوق النجاة للبشر. لماذا؟ تعرفت المجتمعات البشرية مشكلات متنوعة كان لزاماً عليها أن تجد حلولا لها مثل الفتن الطائفية، الأمية، البطالة والحروب الأهلية. وتسهم الدولة والأحزاب السياسية والمثقفون ومنظمات المجتمع المدنى فى إيجاد الحل لكى ينعم المجتمع بالاستقرار والسلام الاجتماعى ويتجه نحو التنمية والتقدم. ولكن تطور الحياة البشرية فى مجالات العلم والتكنولوجيا وأيضاً فى السلوك الاجتماعى والسياسة الدولية أدى إلى نشأة مجموعة من المشكلات لم تعرفها البشرية من قبل أهم خصائصها أنها لا يمكن أن تجد حلاً داخل ثقافة بعينها أو مجتمع واحد. ويمكن تلخيص هذه المشكلات فى أربع أزمات كبرى وهى: أولاً الزيادة السكانية، نحن نصادف مجتمعات تعانى الزيادة السكانية وأخرى تعانى قلة السكان، مثل أستراليا وكندا، ولكن لو نظرنا نظرة إجمالية لوجدنا أن عدد البشر أصبح يربو على سبعة مليارات من السكان وهو عدد كبير تحتمله بالكاد موارد كوكب الأرض. والمهم أن على البشر أن يفهموا أنه لا يمكنهم النمو سكانيا إلى ما لا نهاية وأنه ينبغى أن يوضع سقف لا يتجاوزه عدد السكان على الكوكب. ثانيا التطور فى صناعة الأسلحة وخصوصا السلاح النووى، فقد عرفت البشرية خلال تاريخها حروبا مدمرة لكنها كانت كل مرة على يقين بأن البشر موجودون ومستمرون فى الحياة وإعمار الأرض. أما اليوم فنحن أمام إمكانية لم تكن متاحة من قبل وهى انتحار النوع البشرى. ثالثاً أزمة البيئة بجانبيها المعروفين وهما استنفاد موارد الطبيعة والتغيرات المناخية الناتجة عن الاحتباس الحرارى الناتج بدوره عن الإسراف فى بث غاز ثانى أكسيد الكربون بسبب الصناعة واستغلال الطاقة. هذا الحال يضعنا فى موقف أخلاقى متأزم، فنحن بسبب حرصنا على تحقيق مصالحنا الآنية فى الربح والاستمتاع نحرم الحيوانات والأجيال المقبلة من العيش فى ظروف ملائمة للحياة من حيث توافر المياه العذبة والهواء النقى والغابات والأرض الصالحة للزراعة. رابعاً التقدم العلمى وخصوصا فى مجال الهندسة الوراثية. كان الإنسان يبتهج دائما كلما حقق اكتشافا علميا لأن العلم كان يزيد من سيطرته على الأشياء من حوله ويعطيه القدرة على التلاعب بها واستخدامها لصالحه. ولكن مع الاكتشافات البيولوجية التى تمت أخيرا وجد الإنسان نفسه لأول مرة وقد أصبح موضوعا للتلاعب، ولا يدرى أى مصير ينتظره فى حالة السماح للعلماء بإجراء التجارب على تكوين البشر. هذه المشكلات تخص البشر كلهم وليست خاصة بأمة معينة. كما أنه لا يمكن لنا أن ننتظر حلا تقدمه تلنا التكنولوجيا وانتظار أن يأتى الحل منها سيؤدى إلى تفاقم الأزمة. ليس منوطا بالعلم أن يجد حلاً وإنما الحل سوف ينبع من الحكمة أى من الفلسفة. تلك الحكمة التى نراها للأسف تتراجع فى السنوات الأخيرة. فقد كنا نشعر بأن النصف الثانى من القرن العشرين يبرز مؤشرات تدل على وعى البشر المشترك بهذه الأزمات، ولكن مع رواج الشعبوية ولغة الصلف والتهديد هناك سعى لتهميش هذه المشكلات والمجاهرة بأن الدول لا تتحرك إلا لتحقيق مصالحها المادية والتى ستحققها بالذوق (الدبلوماسية) أو بالعافية (التدخل العسكري). ولكن تبقى أزمات البشر قائمة، ولا تستطيع ثقافة من بين الثقافات الإنسانية أن تزعم أنها وحدها قادرة على تقديم الحل لجميع البشر. إذن كل المجتمعات فى شدة، ومستقبلها معلق بالتعاون بين بعضها البعض. كل ثقافة مدعوة إلى المساهمة فى إيجاد حل، ويمكنها أن تنهل من ميراثها الروحى للبحث عن مخرج. ففى الإسلام والمسيحية والبوذية والكونفوشية والطاوية والهندوسية قيم تدعو إلى علاقة أكثر اتزانا مع الطبيعة. هذا الخطاب النابع من تراث روحى معين، لكنه موجه للبشر كافة وليس لأتباع الديانة التى نشأ منها ينبغى له أن يتعايش مع خطابات تأخرى من أديان مختلفة ولها نفس الغاية، وبالتالى ينبغى أن تتغير العلاقة من المواجهة والصدام إلى التعايش والتعاون، وهذا يقتضى شرطين: أولهما أن يتسم هذا الخطاب بسمات الخطاب الفلسفى التى أشرنا إليها، وثانيها أن يتم الاعتراف بالعلمانية كقيمة إنسانية كبرى لأنها وحدها هى التى تسمح بالاعتراف بالآخرين وتتيح للجميع التعايش المشترك. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث