لا يتعرف الإنسان على الله حقا إلا عندما يكون حرا، فيؤمن به أو يشرك فيه، يطيعه أو يعصاه، ولن يكون مؤمنا حقا إلا إذا كان حرا تماما، فالإيمان اختيار ضمير لا دخل فيه للغير، وهذا سر حلاوته ومصدر روعته، أما الخروج على الضمير خضوعا لأى سلطة فليس إلا استعادة لمحاكم التفتيش التى أهدرت مئات آلاف الأرواح فى أتعس تجربة عرفها التاريخ الإنساني، حيث إن قمع الضمير لا يبنى إنسانا فاضلا، ولا مجتمعا حرا، بل يؤدى لتدمير الحرية، من دون الحفاظ على الإيمان. ولعل كل متأمل فى الصيرورة التاريخية يدرك كيف سارت الحرية فى قلب الزمان عبر جهاد طويل وكفاح دام شهد تراجعات مؤقتة مع تقدم مطرد صارت معه الحرية ضمير البشرية. وإذا كان الضمير يحتل موضع القلب من نظام الإيمان، الذى يتهدم بنيانه بحضور الكهانة الدينية، فإن الحرية هى قلب نظام الحكم الذى تنتفى ديمقراطيته بحضور الكهانة السياسية. وإذا ما تأملنا كيف رفع جل المستبدين يافطة الدين، وكيف توارى جل الكهنة خلف حكام قمعيين، أدركنا كم أن الحرية جوهر الدين الصحيح، بقدر ما هى جوهر الحكم المستنير، فالحرية ضمير الحكم مثلما أن الضمير هو دين الأحرار، ولا تناقض بين الضمير والحرية، بل هما معا نقيضان للكهانة والاستبداد. وهكذا فإن النهضة البشرية غالبا ما ارتبطت إما بلحظات الوحي، عندما ينبثق دين وليد، أو بلحظات التحرر، عندما ينبثق وعى جديد، فلا يمكن لعالم أفضل أن يولد على جثة السائد والمألوف إلا بواسطة شخصية استثنائية سواء من حاملى الرؤى المبشرين بما فوق عالمنا (الأنبياء)، أو من حاملى الأفكار المبشرين بمستقبل أيامنا (الأبطال)، حيث الإيمان والحرية قادران على توليد نشوة وجدانية، تنير باطن الإنسان لتشرق روحه إما بالحضور القدسى لقوة علوية متسامية على الوجود (الله)، وإما بحضور دنيوى لفكرة سارية فى باطن الوعى (الإرادة)، وعندها تتحقق الفعالية القصوى للشخصية الإنسانية، فتخرج من دائرة الخبرة (العادية) بحيزها المحدود، وفعاليتها الجزئية، إلى خبرة جديدة (استثنائية) تبلغ معها الرؤية ذروة صفائها، والإرادة منتهى كمالها، والتضحية أقصى حدودها ليصير (الكل فى واحد). يفترض هنا أن تكون الحرية مسئولة، وهى تكون إذا ناشدت مثلا عليا تطاول المطلقات الدينية كالعدالة والمساواة والإخاء، تلك التى يُفضِّل الإنسان الحر أن يموت لأجلها على أن يحيى بدونها، كما يموت المؤمن دفاعا عن دينه لأن الموت مع الإيمان خلود للإنسان، والحياة من دونه فناء فى الزمان. ومن ثم فإن الأحرار ليسوا إلا مؤمنين إيجابيين، يرفضون الظلم والفساد، لكنهم وبدلا من انتظارهم (الخجول) لحياة فاضلة فى ملكوت السماء، أخذوا يجسدون جنتهم الآن، وعلى هذه الأرض. كما أن المؤمنين أحرار عاقلون، حريصون على فضائل الحرية والتقدم وإن منحوها معانى فائقة تصل عالم الشهادة بعالم الغيب، على نحو يكفل لها أن تكتل الإرادة الجمعية لقطاعات واسعة من البشر، وأن تتحقق فى التاريخ. أما التدهور البشرى فغالبا ما يرتبط بفساد التدين، أو بجمود السياسة. يفسد الدين بالخروج من فلك الأرواح والخضوع لمؤسسات (بطريركية) تسعى إلى فرض الوصاية أو الوقوع فى أسر جماعات حركية تعمل على سلب الوعى وتبرير الظلم، على النحو الذى جسّده بروعة فائقة الفنان الراحل حسن البارودى فى أحد أبرز أفلامنا السينمائية وهو يطلب من الفنان الراحل شكرى سرحان أن يطلق امرأته الفنانة الراحلة سعاد حسنى لتتزوج من عمدة القرية، رمز الاستبداد والقهر مرددا الذكر الحكيم: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم». فهنا يقترب الدين من الشكل الذى رسمه له النقد الماركسى باعتباره أفيون الشعوب، ويصير هدفا لحركات التغيير الكبري. كما تتجمد السياسة بفعل التسلط الذى يفضى إلى ركود المجتمعات، حينما يحتكر شخص أو جماعة المجال العام، فتحرم طوائف المجتمع المختلفة من طرح مطالبها، وتمنع العقول الكبيرة من عرض تصوراتها، فتتوارى حكمة الأمة التى لا تجتمع على باطل لصالح رؤية فرد يملك أوهاما عن حكمة مطلقة، مستعينا فى ذلك بأكثر المؤسسات انغلاقا ورفضا للتغيير حفاظ على الأمر الواقع، ومن ثم يتحرك رجال السياسة إلى موضع البطاركة فى الدين، حفاظا على موقعهم المتميز فى سلم القهر، متنكرين لكل إيمان خلاق، وكل فكر فعال يتفجر أملا لايرومونه، ويتدفق عدلا لايطيقونه. وعلى هذا فإن إصلاح المجتمعات المتخلفة لا يقتصر على جانب واحد للحياة الإنسانية، إذ لا صلاح للدين من دون إصلاح السياسة، ولا تجديد للمؤسسات الدينية إلا بتحديث المؤسسات السياسية، فالأولى محافظة وتقليدية بطبيعتها، لا ترغب، وقد لا تستطيع أحيانا، فى أن تجدد نفسها إلا تكيفا مع وعى مجتمعاتها الذى تصنعه مؤسسات الدولة العلمية والثقافية والإعلامية والسياسية، ذلك أن سوق الأفكار، كسوق السلع، تنهض على قاعدتى العرض والطلب، فإذا ما عجزت المؤسسات الدينية عن تقديم معروض دينى مناسب تعين على المؤسسات السياسية أن تصنع مواطنا ذات طلب مغاير لما يقدم له، وهنا لن يكون على مؤسسات الدين إلا أن تتجدد أو تذبل، وهى سنة كونية نلمسها فى كل تجربة تاريخية بل نكاد نصغى لها وهى تهمس فى آذاننا: كل عنف دينى وليد مجتمع مأزوم، لا يملك سوى التفتيش فى هويته بحثا عن مشاعر ثقة أو جذور مقاومة، ولا تملك المجتمعات أصلب من الاعتقاد الدينى والانتماء القومي، ولذا فغالبا ما تأخذ الانفجارات المجتمعية الكبرى شكل الإحياء الدينى العنيف أو البعث القومى المتطرف. لقد حاربنا التطرف فى مصر عبر موجات عدة، كلفتنا أثمانا بالغة، من دون أن يكتمل انتصارنا أبدا، لأن حالنا عقب كل مواجهة معه كان يمنحه ما يجدد دماءه، فالتعليم الركيك، والفن الهابط، والثقافة الواهنة، والحريات الغائبة، والديمقراطية المعطلة، والأحزاب المتهالكة، كلها تستدعيه، حيث المجتمعات كيانات عضوية حية لابد أن تتحرك وتتفاعل، فما لم يتح لها ذلك فى وضح النهار وتحت الشمس الساطعة، هبطت بنشاطها تحت الأرض، إلى داخل الكهوف وفى غياهب الظلمات، لتنتج أفعالا تتفق مع طبيعتها المأزومة، وشعورها الخانق بالحصار. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم