نحتفل في هذه الأيام بذكري مرور500 عام علي ميلاد يوحنا( جون) كالفن, اللاهوتي والمصلح الديني الذي ترك لسويسرا وللعالم بأسره ميراثا لا يزال مؤثرا إلي اليوم علي التفكير الغربي الحديث. فعندما يتعلق الأمر بالطريقة الجديدة للاقتراب من الله أو بالعلاقة بين الدين والدولة أو بالديمقراطية, فمن المحتم أن نتذكر جون كالفن, ووجد المذهب الكالفيني نسبة إلي جون كالفن أرضية خصبة جدا. فاليوم, يعيش وراء المحيط نحو15 مليونا من أتباع مذهب كالفن الذين يعرفون أيضا باسمPresbyteroian المشيخيين كما توجد مجموعات كالفينية في سكوتلندا وكوريا الجنوبية, كما تنتمي أيضا الكنيسة الإنجيلية المشيخية في مصر سنودس النيل الأنجيلي إلي هذا المصلح العظيم وإجمالا يقدر عدد أتباع المذهب الكالفيني في العالم بنحو50 مليون شخص. والفترة التي ظهرت فيها حركة الإصلاح الديني في أوروبا( القرنان الخامس عشر والسادس عشر) تعتبر هي الفترة الانتقالية للفكر الديني الغربي من العصور الوسطي إلي العصور الحديثة, وهذه الفترة كان لها الأثر الكبير في الحياة السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية, وهذه المرحلة التاريخية التي ظهرت فيها حركة الإصلاح الديني البروتستانتي هي التي دعمت تطور الديمقراطية, والعلاقة بين الدين والدولة فلقد رسخ كالفن مفهوم الفصل بين الدولة والدين, فهو نادي بأن هناك نظاما مزدوجا في الانسان: النظام الروحي الذي يهتم بالروح وبالداخل والنظام السياسي أو المدني أو الزمني الذي يتم بالأخلاق الخارجية وبالواجبات الإنسانية والمدنية التي يجب علي الناس أن يحافظوا عليها فيما بينهم من أجل ان يعيشوا مع بعض بنزاهة وبعدل وهذين النظامين يكملان بعضهما بالرغم من اختلافهما. وهكذا يعيد كالفن صراحة للتنظيم المدني, مهمة إدارة الدين بشكل جيد, ونادي بأهمية أن يختار الشعب من يرعاه داخل الكنيسة ولذلك فإن نظام الكنيسة الإنجيلية المشيخية في جميع أنحاء العالم مبني بالكامل علي الأسس الد يمقراطية بدءا من الكنيسة المحلية حيث يختار كل شعب راعيه ومن يمثله في مجلس الكنيسة( الشيوخ) ومرورا بالمجامع الإقليمية ونهاية بالسنودس( المجمع الأعلي للكنيسة الأنجيلية المشيخية) وبمرور الوقت. ترسخت هذه الطريقة الكلفينية لتنظيم المؤسسات في العقلية السويسرية وحتي في الأوساط غير الدينية. فمؤسسات الدولة تظل مفصولة بصرامة عن أي هيكل ديني. فيما تتسع مشاركة القاعدة( الشعبية) في اتخاذ القرارات السياسية بدءآ بالمستوي الأدني ووصولا إلي المستوي الأعلي. فكل هذه( العوامل) تؤدي إلي تمكين الشعب وإن كانت الديمقراطية ذاتها لم تكن هدف الحركة البروتستانتية, فهي حركة إصلاح ديني, تسعي لتغيير الوضع والتخلص من سلطة الكنيسة ومن سياستها التي كانت تعمل علي تشويه المسيحية. لكن العوامل والظروف التي اجتمعت معها في تلك الفترة, أدت إلي التأثير علي الحياة السياسية وإلي إنعاش الديمقراطية. قبل ظهور حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر, كان الإنسان خاضعا لسلطة الكنيسة خضوعا تاما فتمكن الإصلاح الديني من تحريره بصورة كبيرة من السيطرة المزدوجة للكنيسة ورجال الحكم المدني, وحقق له كسبا في كثير من الميادين كان أبرزها الحرية والفردية بوصفهما مقدمتين ضروريتين للديمقراطية التي حملها وبشر بها العصر الحديث,.. فلقد أطلقت حرية العبادة وأضحت تتسم بطابع فردي يتمثل في جعل العلاقة مباشرة بين الانسان وربه وأصبحت سلطة الضمير الفردية تحل محل سلطة الكنيسة والبابا, والميل بالأنسان نحو الدنيويات, من خلال جعل الدين أمرأ شخصيا وخاضعا لضوابط أخلاقية محددة, والدعوة إلي قيام علاقة متوازنة بين الحاكم والمحكوم وعلاقة الفرد بالدولة. لقد أحدث الإصلاح الديني نقلة حقيقة في حياة الفرد والمجتمع من حالة الهيمنة الكنسية باسم الدين إلي حالة تحرير الفرد نسبيا من تلك الهيمنة وإعادة الاعتبار إلي الانسان بوصفة كائنا إنسانيا وروحيا ينبغي أن يكون حرا من الناحية العقائدية والروحية ولايخضع لسلطة أحد إلا الله, ولا لمراقبة أحد إلا الضمير, فقد جنحت المجتمعات الأوروبية الحديثة إلي فصل علاقة الدين بالدولة وبمجالات الحياة المختلفة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والأخلاق, فأصبحت السلطة الوحيدة هي سلطة الإنسان العاقل, وليست سلطة الدين ومؤسساته الروحية, فأصبح الإنسان مركزا للكون, دون منازع, فمن أهم إنجازات الإصلاح الديني, الانتقال بالإنسان من سلطة كنسية دينية بابوية أحادية, كان الإنسان عنصرا سلبيا فيها, إلي سلطة مزدوجة دينية ومدنية أصبح فيها الإنسان طرفا فاعلا. لقد رأي كالفن وغيره من قادة الإصلاح أن الفرد بوصفة كائنا متدينا, ينبغي تحريره من سلطة رجال الدين والكنيسة علي نحو يتيح له ممارسة نشاطه التعبدي بشكل فردي وحر من سلطة الطقوس الدينية الشكلية, والتركيز علي البعد التقوي الداخلي فيه والذي لا سلطان لأحد عليه سوي الله والضمير بمعني آخر يتعين لي الفرد المؤمن أن يكون إيمانه إيمانا فرديا خالصا نابعا من ذاته, وليس من سلطة خارجية, إذ ليس بوسع أحد معرفة حقيقة إيمان أي شخص إلا الشخص نفسه, فضمائر المؤمنين لا أحد يطلع عليها إلا الله, وعليه فالعلاقة بين المرء وربه ينبغي أن تكون علاقة مباشرة لا يتوسطها كاهن, كذلك قبول التوبة وغفران الذنوب والخطابا لا يمكن تفويض أحد من البشر القيام به نيابة عن الله, فالله وحده غافر الذنوب ولايعطي سلطانة لأحد من الناس علي وجه الأرض, كذلك أكد قادة الإصلاح الديني علي نبذ العنف والدعوة إلي التسامح بين الناس حتي مع الذين يمتلكون آراء دينية مخالفة, والرد عليهم بواسطة الحوار, الأمر الذي أفسح المجال الظهور أفكار متعددة ومتعارضة. لقد كان إصلاح الدين في أوروبا بواسطة جون كالفن وغيره من زعماء الإصلاح مقدمة نحو الإصلاح الشامل في باقي الميادين, بمعني أن الإصلاح لم يقصر مهمته علي إصلاح المؤسسة الدينية فحسب, بل تجاوزها ليشمل إصلاح الفرد والمجتمع علي نطاق واسع, إن تجربة أوروبا وما مرت به من أحداث تختلف عما مر به باقي العالم, ولا نستطيع أن نعمم هذه التجربة الديمقراطية علي باقي الدول. لكن من الأفضل ولتجنب الحروب الأهلية والدينية, أن يتم فصل الدين عن السياسية وذلك لضمان حقوق جميع أفراد المجتمع فمن المفضل أن يبقي الدين غذاء الروح حيث إن الإنسان إذا كان مقتنعا بدينة فإنه لن يرتكب المعاصي والمنكرات وأي شيء مخالف لتعاليم الدين, أما الدين المتصل بالحكم فهو دين يركز علي السياسة والسيطرة مما قد يفقده قدسيته ويجعل هدفه الأساسي هو احتكار السلطة, فهل من دروس يمكن أن نتعلمها في منطقتنا العربية ونحن نحتفل بالذكري الخمسمائة علي ميلاد المصلح العظيم جون كالفن؟!!