أعتقد أن المظاهرات الصاخبة التى نظمها أصحاب «السترات الصفراء» وضربت هدوء واستقرار العاصمة الفرنسية «باريس» تحتاج إلى وقفة للقراءة والتأمل بعيدا عن الرؤية المحدودة لها باعتبارها غضبا شعبيا ضد الزيادة التى فرضتها حكومة الرئيس ماكرون على أسعار الوقود. إن هذه المظاهرات تجيء بمثابة احتجاج على المنظومة الاقتصادية الدولية التى فرضت نفسها على سوق التجارة العالمية منذ مطلع هذه الألفية الجديدة، تحت مسمى «العولمة»، لإخراج النظام الاقتصادى بعيدا عن سلطة الدولة وتقليل دورها فى ضبط آليات النشاط الاقتصادى وهو ما يؤدى تلقائيا إلى نشوء أضرار قاتلة تهدد الدولة خصوصا تلك التى مازالت – مثل فرنسا – تحرص على بناء درجة معقولة من التضامن الاجتماعى الوسطى. وعلى عكس ما كان يبشر دعاة نشر «العولمة» من أن تسليم «السلطة السياسية» للسوق سوف يقود تلقائيا إلى تعميق القيم الديمقراطية وخدمة مصالح الشعوب، فإن مظاهرات باريس وما سبقها من مظاهرات مماثلة فى عدة دول أوروبية أبرزت واقع العجز الديمقراطى فى تلك الدول المتقدمة التى يندر فيها الاحتكام للشارع بعيدا عن المؤسسات النيابية المنتخبة التى بدأت تشعر بعدم قدرتها على التعاطى مع النفوذ المتصاعد للشركات متعددة الجنسيات العابرة للحدود، والتى باتت تملك سلطة تأثير واسع فى شكل ومسيرة المجتمعات ودون أدنى اعتبار لمصالح عامة الناس. ويبقى العامل الأهم هو أن التأثيرات السلبية للعولمة فى دول العالم الثالث زحفت إلى قلب أوروبا من خلال أفواج الهجرة غير الشرعية، الأمر الذى بات يشكل تحديا لتلك المجتمعات عندما تشعر بالعجز عن المفاضلة بين مصالحها الذاتية وبين التزامها برايات الحرية وحقوق الإنسان والسبب فى ذلك أن «العولمة» قلبت الأوضاع ولم يعد الاقتصاد حيث ينبغى أن يكون فى خدمة الإنسان، وإنما بات الإنسان عبدا ذليلا للاقتصاد وقواعد السوق. وظنى أن مظاهرات باريس تمثل جرس إنذار تتجاوز أصداؤه حدود فرنسا وربما يوفر مدخلا صحيحا لإجراء مراجعة جذرية للنظام الاقتصادى العالمى الراهن قبل أن يفلت الزمام! [email protected] لمزيد من مقالات مرسى عطا الله