شهور و هو يراقبها من بعيد، مواعيدها مضبوطة بالقدر الذى يتيحه انتظام حركة الترام، فى الثامنة والنصف يراها تهبط من عربة السيدات، وفى الخامسة والربع تركب نفس العربة، «على» بائع للجرائد والمجلات في محطة الرمل وهى تعمل في فندق شهير وعريق يبعد خطوات عن محطة الترام، طويلة رشيقة، خمرية اللون أما شعرها الأسود الناعم فينسدل على كتفيها بحرية، يزيدها اليونيفورم الداكن رشاقة ووقارا، لم يفكر يوما في الاقتراب منها أو إلقاء السلام، كان يكتفي فقط بمراقبتها، وكان يومه كله مبنيا على هذه المراقبة، إذا رآها في الصباح بشوشة و نشيطة و منطلقة يكون يومه مليئا بالبهجة و الفرح حتى لو كان حال البيع راكدا، ولو رآها مهمومة حزينة أو عليها آثار مرض، يصبح يومه كئيبا حتى لو باع فيه كما لم يبع من قبل، و رغم الأعداد الكبيرة التى تخرج من الترام في الصباح كان وجهها الصبوح يبدو كمغناطيس، يجذب نظره إليها وسط مئات الركاب المغادرين، وقمة سعادته لو تلاقت العينان صدفة ولو لثانية واحدة، يشعر بتيار كهربى يسرى في جسده، ثم يتخدر للحظات ويثبت وكأنه أصبح خارج سياق الزمان والمكان، شعور لا يمكن أن تصفه كلمات، ثم جاء يوم تلته أيام ولم تظهر أميرته كما كان يسميها، ظن في البداية أنها ربما فى إجازة و لكن الأيام طالت دون جديد، فكر أن يسأل عنها في الفندق الذي تعمل فيه، ولكن بأي صفة يسأل، ثم إنه لا يعرف حتى اسمها، تبدل حاله و عاش أياما في غم وحيرة، ثم طرأت له فكرة، بائع جرائد صديق مجاور للفندق، لجأ إليه وطلب منه أن يساعده ولم يتأخر الصديق، أخبره أن أحد عمال الفندق يمر عليه يوميا لشراء الجرائد للكافيه الملحق بالفندق، انتظر حتى مر عليه وسأله عنها، وصفها له و لكن العامل عرفها بسهولة عندما أخبره أنها تأتي للعمل بواسطة الترام، ثم أتبع كلامه بكارثة: الله يرحمها، ماتت من أيام، كانت مريضة بالمرض الخبيث كانت الكلمات مثل قنبلة انفجرت فى وجه على، اسودت الدنيا في وجهه وترك صديقه والعامل يكملان كلامهما وسار هائما على وجهه، لم يدر بنفسه إلا وهو واقف على الكورنيش شاخصا ببصره تجاه البحر، بينما يد صديقه تربت على كتفه، اعتكف علي في البيت لأيام لا يريد العمل أو حتى الخروج، وتحت ضغط وتوسلات من أمه خرج بعد أسبوع عائدا إلى مكانه في محطة الترام، كان يرى المارة والركاب يسيرون ببطء وكأنهم يسيرون في جنازة حبيبته، وبينما يتأملهم بحزن وصل الترام إلى المحطة وتوقف، ثم هبطت هى كحلم يسير على قدمين، نعم هى بعينها، لم ولن يخطئها أبدا، بل وياللعجب دارت بعينيها للحظات وكأنها تبحث عنه، والتقت العيون ولكنها لم تكن لثوان هذه المرة، بل طالت المدة حتى شعر علي أنها عُمرٌ كامل، أفاق من تأمله وانطلق مهرولا إليها، مد يده ليسلم عليها وكأنه يريد أن يتأكد أنه لا يحلم، وببساطة وضعت راحتها الدقيقة الناعمة فى كف يده وكأنها تعرفه من زمن، قال لها ودقات قلبه تكاد تطغى على صوته: حمدا لله على السلامة يا أستاذة، ايه الغيبة دى، ردت بصوت ملائكى: زميلة عزيزة توفيت وكنت حزينة عليها جدا ومكنتش قادرة أنزل الشغل قال لها وصوته يكاد يرقص فرحا: المهم أنت بخير ردت وهي تسحب يدها وتغادر: الحمدلله مضت فى طريقها ثم التفتت لتطلق ضحكة من القلب عندما رأت عليا يرقص على رصيف المحطة وسط دهشة الركاب.