تعانى الحياة الدينية فى العالم العربى والإسلامي، الصراع بين المؤسسات الدينية الرسمية، وبين الجماعات الإسلامية، والراديكالية والسلفيين والدعاة، ومن سطوة الفكر النقلى التقليدى والمتشدد، على نحو أدى إلى حالة من الفوضى فى الأسواق الدينية والأفتائية والدعوية. اتسمت الأسواق الإفتائية الوطنية والإقليمية والعولمية بالتشدد والجمود والنزعة النقلية، والانتقائية فى استمداد الفتاوى من مصادرها المرجعية المذهبية التاريخية لمؤسسيها وتابعيهم، وهو ما أدى إلى تزايد وتفاقم التناقضات بين الضمير المسلم، وبين نمط الحياة والسلوك الاجتماعى الحديث. الحيرة والانشطار النفسى بين واقع الحياة العصرية، وبين نمط الإفتاء النقلى السائد، أدى انتشار بعض الآراء والفتاوى النقلية الوضعية المتشددة والراديكالية المستمدة من الموروث الإفتائى إلى تبرير وتسويغ التطرف العنيف والإرهاب، وإلى بروز أزمة غالب الأجهزة الإفتائية الرسمية فى العالم العربى والإسلامي، التى تعود إلى عديد الأسباب وعلى رأسها: - استمرارية نمط الإفتاء التقليدى الذى يعتمد على إعادة إنتاج الموروث الإفتائى لدى بعض فقه الجمهور السنى ومتونه التأسيسية وشروحها الوضعية. - دعم بعض السلطات العربية لبعض الفقه المتشدد ولجماعات إسلامية راديكالية، وبعض المشايخ والدعاة والجماعات السلفية كجزء من سياساتها الدينية والخارجية فى الإقليم وفى مناطق آخري، على نحو ما تم فى أفغانستان وسوريا والعراق واليمن. - الطلب الاجتماعى المتزايد على الفتوى بعضه حقيقي، والآخر زائف. النمط الأول: يعود إلى ضعف الثقافة الدينية أو الأمية الدينية لدى بعض الشرائح الاجتماعية، وانفجار المشكلات الاجتماعية، وتزايد الأسئلة حول التناقضات بين أنماط التدين الشعبى السائد، وبين الخطابات الدينية للجماعات الإسلامية السياسية وبعض الدعاة، التى تخالف أراء وفتاوى المؤسسات الدينية الرسمية. النمط الثاني: من الطلب الدينى الزائف يعود إلى استخدام الجماعات الإسلامية الراديكالية والسياسية الواقع الافتراضى فى طرح أسئلة وفتاوى وإجابات حولها لطرح أفكارها السياسية. من ناحية أخرى استخدام بعض الجمهور للواقع الافتراضى فى طرح أسئلة غير واقعية حول النظام العقيدي، أو طرح أسئلة افتراضية، أو قديمة مستمدة من التاريخ الإفتائي. أزمة غالب الأجهزة الإفتائية الرسمية وعدم تكيفها مع متغيرات عصرنا التكنولوجية والاجتماعية، أسهمت فى تمدد الخطابات التى تحفز على التطرف العنيف، والإرهاب، والتكفير، لاسيما فى ظل أزمات السياسات الدينية الرسمية السائدة فى المنطقة العربية. منذ فترة بدأت الأجهزة الدينية الرسمية فى مصر الأزهر ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء -فى الاهتمام بمتابعة فتاوى الجماعات الإسلامية الراديكالية داعش والقاعدة ...إلخ- ومواجهة نمط الإفتاء التكفيرى أو المسوغ للسلوك المتطرف والعنيف والإرهابي، وهو منحى يتسم بالإيجابية على الرغم من أنه يشكل نمطا من رد الفعل الإفتائى الرسمي، الذى يعتمد على استعادة بعض المرجعيات والمتون النقلية، وهو جهد مشكور، ويحتاج إلى التقييم، والدعم والتطوير وضرورة الربط بين البحث الشرعي، وبين البحوث السوسيو-دينية، والسوسيو-سياسية، وطرح عديد الأسئلة على إنتاج الأجهزة الإفتائية، وسياستها ومقارباتها لظواهر وأنماط الإفتاء المتطرفة والعنيفة والمسوغة للأعمال الإرهابية. ثمة حاجة سياسية واجتماعية ودينية، تدعو إلى دعم عمليات تطوير الأجهزة الإفتائية الرسمية فى المنطقة العربية، وذلك من خلال بناء ورفع قدرات المختصين بالإفتاء، وذلك من خلال برامج لإعادة التأهيل من خلال ورش العمل، حول القضايا المطروحة على الواقع السياسى والاجتماعى الفعلى والأفتراضي، والتحولات الكبرى فى مجال الثورة التكنولوجية الرابعة، والذكاء الصناعي، والرقمنة، وانعكاساتها على الحياة الإنسانية، وعلى الشرط والوجود الأنساني، وذلك كى تواكب الأجهزة الإفتائية متغيرات عصرنا، وأسئلته الجديدة الحرجة. أن إصلاح الأجهزة الإفتائية لا يرمى فقط إلى مواجهة موجات الإفتاء المتطرفة والإرهابية التى توظف بعض التأويلات الوضعية المتشددة والتكفيرية فى شرعنة العنف والإرهاب، وإنما إلى تجديد فى الفكر الدينى والإفتائى من أجل تقديم الصور الصحيحة للإسلام العظيم الديانة والقيم الفضلى والروح السمحاء، والأهم بناء التكامل والاتساق النفسى والاجتماعي، بين الضمير الفردى للمسلم ومجتمعه وعالمه المتغير. لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح