بينما كانت باريس تحتفل بالذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، كانت بودابست تعيش حالة من الاحتجاج غير المعلن على نتائج تلك الحرب التي أسفرت عن فقدانها ما يزيد على 67% من مساحة أراضيها، ومعها ما يقرب من نصف سكانها، في توقيت مواكب لاندثار ثلاث من الإمبراطوريات الأخرى المجاورة، وهي الإمبراطورية الروسية والعثمانية والألمانية، إلى جانب امبراطورية النمسا- المجر. في صخب «مكتوم»، أجًج نفوس الملايين من أبناء المجر حزناً وأسى لما حاق بوطنهم من مآس وكوارث أفقدته مساحات شاسعة من آراضيه، ومعها كثير من وقار التاريخ الذي سبق ووضعها في مصاف أبرز إمبراطوريات ذلك الزمان . وعلى الرغم مما كابدته وتكابده هذه الملايين من تبعات ويلات ضياع الأرض والتاريخ منذ ما يزيد على المائة عام، فان هناك من يظل يتشبث بالأمل في تصحيح المسار واستعادة ما فات. وكانت المجر أكثر الإمبراطوريات التي عانت ويلات تبعات الحرب العالمية الاولي 1914-1918 التى شاركت فيها ما يزيد على ثلاثين دولة أوروبية إضافة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية التى انضمت قبل نهايتها بأشهر معدودات إلى مجموعة الحلفاء بريطانيا وفرنسا مع الإمبراطورية الروسية وكذلك كندا وأستراليا وبلجيكا وصربيا والجبل الأسود وإيطاليا واليابان ، ضد دول المحور ألمانيا وإمبراطورية النمسا-المجر والإمبراطورية العثمانية. وقد أسفرت هذه الحرب عن ضحايا بشرية هائلة لم يسبق لها حتى ذلك التاريخ مثيلا، وبلغت ما يزيد على 57 مليونا بين قتيل وجريح، فضلا عن الدمار الهائل الذي أصاب بلدان «القارة العجوز»، وكانت مقدمة لسلسلة من الثورات التي غيرت وجه التاريخ وفي مقدمتها ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمي في 1917 قبيل الإعلان عن قيام الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1922، وتغيير الخريطة الجغرافية لمعظم بلدان القارة الأوروبية، ومنها المجر التي فقدت ما يزيد على نصف آراضيها ، وكذلك ألمانيا التي استسلمت لضياع الكثير من مقاطعاتها على الجبهة الشرقية. ويذكر المؤرخون أن تبعات ما فقدته المجر من أراض لا تزال آثارها مرسومة على جِبَاه الملايين من أبناء الامبراطورية السابقة، ممن اضطرتهم قسوة الهزيمة إلى الاستسلام للشروط الجائرة للمعاهدات التي فرضها المنتصرون في فرساى بعد أن وضعت الحرب أوزارها، بموجب ما أبرمته الأطراف المعنية من معاهدات ووثائق أبرزها «وثيقة الهدنة» التي جرى توقيعها في 11 نوفمبر عام 1918. وكانت «معاهدة تريانون»، أبرز وثائق ذلك الزمان، وأكثرها تأثيرا على المجر وأبنائه، بما نصت عليه من بنود تقول بإنهاء وجود إمبراطورية النمسا- المجر، وإعادة رسم حدود «القارة العجوز»، ما وضع أسس ظهور دول جديدة، قامت كلها على أراض مجرية مثل سلوفاكيا وكرواتيا في يوجوسلافيا القديمة، وترانسلفانيا التى جرى ضمها إلى رومانيا. وأضافت تلك المعاهدة ما ألزم المجر على التنازل عن مساحات هائلة في شرق آراضيها آلت قسرا إلى أوكرانيا المجاورة، لتفرض عليها واقعا جغرافيا جعلها محصورة داخل مساحة برية ضيقة، تُفقِدها الكثير من وقار الماضي. ومن اللافت أن إماطة اللثام عن كل هذه الذكريات، واستعادة وقائع التاريخ مع احتفالات باريس بذكراها المئوية، جاء مواكبا لانتفاضة غير معلنة من جانب الكثير من أطرافها وفي مقدمتها المجر وبولندا والنمسا التي كانت أعلنت في مطلع نوفمبر الحالي عن رفضها التوقيع على انضمامها إلى معاهدة الأممالمتحدة حول مبادئ الهجرة. ولم يكن ذلك كله سوى «إعلان صارخ» عن احتمالات الجنوح نحو انفراط عقد الاتحاد الأوروبي، ولحاق بعض بلدانه ببريطانيا. وعلى الرغم من أن مثل هذه الاحتمالات لا تزال بعيدة المنال، فان ما كشفت عنه بلدان وسط وشرق أوروبا من توجهات رافضة للضغوط الرامية إلى إرغامها على الانضمام إلى معاهدة الهجرة المطروحة من جانب الأممالمتحدة، تقول باتساع مساحات الخلاف بين الأطراف المعنية وبما يحدد ملامح قوام «غير معلن» لمحاور هذا الخلاف. فبينما تقف كل من المجر وبولندا مع النمسا وكرواتيا مؤيدة لضرورة الحيلولة دون الهجرة الشرعية، ورفض نظم المحاصصة التي سبق وحددها الاتحاد الأوروبي، تعلن كل من ألمانيا وإسبانيا ومعهما بدرجة أقل قليلا إيطاليا وفرنسا مواقفها إلى جانب الاتجاه المعاكس لمثل هذا التوجه، في نفس الوقت الذي تقف فيه بلدان الشمال وفي مقدمتها السويد والنرويج وفنلندا في موقف المراقب. وكان فيكتور أوربان رئيس الحكومة المجرية أول من جاهر برفضه نظام المحاصصة الذي أعلنه الاتحاد الأوروبي، وبادر بإقامة الأسوار العازلة على الحدود المتاخمة لكثير من البلدان المجاورة للحيلولة دون تدفق المهاجرين غير الشرعيين. ونقلت الوكالات المحلية والعالمية الكثير من تصريحاته في هذا الصدد، وهو ما عاد وأكده وزير خارجيته بيتر سيارتو الذي قال ما نصه: أنه وعلى الرغم من رأى الأممالمتحدة حول أن الهجرة «حالة إيجابية متواصلة» يجب دعمها ، فإن المجر تراها «حالة سلبية لا تشكل وحسب خطرا على المجر، بل وعلى كل أوروبا». وانضم الوزير المجري إلى ما سبق وصدر من تصريحات عن القيادات الرسمية لبولندا والنمسا وكرواتيا حول رفض الانضمام إلى التوقيع علي هذه المعاهدة في المغرب في ديسمبر المقبل.