مرت مائة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى أو حرب تفكيك الإمبراطوريات النمساوية والألمانية والسلطنة العثمانية، وتوسع أخرى وإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية الأوروبية ثم بروز الإمبراطوريتين السوفيتية والأمريكية اللتين قسمتا العالم إلى قسمين، فمنذ مائة عام وقعت الهدنة التى وضعت حدًا لفظاعات الحرب العالمية الأولى فى عربة قطار تابعة لرئاسة الأركان الفرنسية، وسميت تلك الحرب (عالمية) بسبب اتساع المناطق التى شهدت معاركها، والعدد الكبير من الدول التى شاركت فيها. فما بين 1914 تاريخ انطلاق هذه الحرب و1918 تاريخ انتهائها وقعت أحداث جسام، وكان من أبرز أسباب الحرب، جشع السلطة، ووهم التوسع، وبروز القوميات الأوروبية المتطرفة، أما العرب فلم تكن لهم قضية فى تلك الحرب باستثناء بعض الدول التى كانت تحت الحكم العثمانى، والذين عانوا وطأة الضرائب، وسوء الإدارة خاصة أن الحكم التركى حينها كان متخلفًا وضعيفًا، ولم يكن يستطيع محاربة التقدم الصناعى بدول أوروبا الاستعمارية فأصبحت الدول العربية التى كانت تحت إدارته فقيرة بخلاف الدول التى حكمتها الإمبراطورية البريطانية أو الفرنسية، وقيل عن تلك الحرب إنها ستكون نهاية الحروب فى تركيا، لكن التنافس على المستعمرات كان السبب الرئيسى فى نشوب الحرب العالمية الثانية، وهى أشد هولاً وأكثر تدميرًا بسبب التقدم فى صناعة الأسلحة، والحاجة إلى مزيد من الأموال لتشغيل مصانعها، ولم يعد مقتصرًا على أوروبا، بل عمّ الدول الأكثر فقرًا التى تغرق فى حروب أهلية تغذيها أطماع الإمبراطوريات السابقة التى تحتكر هذه الصناعة وتطورها كل يوم وتتكتل ضد كل دولة تحاول المنافسة، ومن نتائج الحرب العالمية الأولى أنها أعادت رسم الخريطة الأوروبية وخريطة الدول التى كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية وتقاسمتها بريطانياوفرنسا اللتان خاضتا الحرب الثانية باستخدام أبناء المستعمرات وقودًا لها فكان الإفريقى يقتل الإفريقى، والعربى يقتل العربى، والمسيحى يقتل المسيحى والمسلم يقتل المسلم باسم السيد الذى يدعى حمايته وتعليمه الحرية والديمقراطية ويدفعه إلى القتل فى الوقت نفسه، ومن نتائج التنافس على المستعمرات أيضًا بروز الإمبراطورية الأمريكية التى ورثت فرنساوبريطانيا، وشكّلت معهما حلفًا ضد أعدائهما فى أوروبا وفى المستعمرات ودافعت عنهما فى مواجهة الاتحاد السوفيتى السابق، ومن نتائجها أيضًا أن الاستعمار الاقتصادى حل محل الاستعمار المباشر ومع ذلك لم تنته الحروب بل زادت وتيرتها خصوصًا فى الشرق الأوسط وإفريقيا حيث مصادر الطاقة. تحل الذكرى المائة على الحرب الكبرى فى الوقت الذى تعصف الأزمات بالعالم نتيجة الصراعات بين القوتين الأمريكية والروسية مع تزايد الشكوك والمخاوف من تمدد «التنين الصيني» خارج أراضيه ومؤشرات الانشقاقات داخل الاتحاد الأوروبى الذى قام على مفهوم إلغاء القومية الواحدة والتوحد الإقليمى، وبعد مائة عام على الحرب الكبرى هل انتهت الحروب؟ كل الدلائل تشير إلى عكس ذلك فسباق التسلح مازال قائمًا، التنافس على المستعمرات القديمة والمستقلة مازال كما هو، والأيديولوجية الاستعمارية هى ذاتها، والمملكة المتحدة مازالت تدعى ملكيتها جزر الفوكلاند قرب الأرجنتين، وفرنسا مازالت متمسكة بتاريخها، وترفض الاعتذار للجزائر، والولايات المتحدة تهدد أى دولة أو شخص يعارض سياستها وتفرض العقوبات على من يخالفها، فبالأمس القريب وخلال الاحتفال بمئوية الحرب، وعندما طالب إيمانويل ماكرون رئيس فرنسا ودعمته المستشارة الألمانية انجيلا ميركل بأن يكون للاتحاد الأوروبى جيش خاص يدافع عنه، غرّد ترامب على الفور بأن العلاقات التجارية مع فرنسا ليست فى مصلحة أمريكا، وأمر بمراجعة الاتفاقات التجارية بينهما فى تهديد واضح لمن يخرج عن طوع القوة الأوحد فى العالم، وروسيا التى كانت حليفة خلال الحربين العالميتين أصبحت عدوًا. أما الشرق الأوسط فبات نموذجا للحرب المتناسلة منذ اقتسام (أملاك) السلطنة العثمانية إلى اليوم ومنذ وعد بلفور لليهود وإنشاء إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية قاعدة عسكرية متقدمة تحمى المصالح الاستعمارية.. ويحيى القادة الأوروبيون ذكرى الحرب العالمية الأولى ويتحدثون عن السلام والحرية وتقديس الحياة وفى الوقت نفسه لدى كل منهم خطة لمزيد من الحروب، فمصانع الأسلحة فى حاجة إلى من يستهلك إنتاجها وهناك من هو متلهف لشرائها، كما أن الجيوش جاهزة للتحرك وكذلك مساعدة الحلفاء والأصدقاء! د. عماد إسماعيل