دفعت حكومة توكوجاوا اليابانية إلى هولندا عام 1857م 100 ألف دولار تكلفة بناء السفينة الحربية كانرين مارو، بطول 49 مترا وعرض 7أمتار وعليها 12 فوهة مدفع، لتكون أول قطعة فى الأسطول اليابانى الذى بدأ تأسيسه ليحمى البلاد من الأطماع الغربية، محاولة التقليل بعض الشيء من تلك الفجوة التقنية بينها وبين الغرب، لكن سرعان ما تدارك المسئولون أن اللحاق بالدول الغربية المتقدمة لن يكون إلا بالوقوف على أسرار ذلك التقدم الحضارى وليس شراء ماتنتجه حضارتهم،فكان إرسال البعثات إلى دول الغرب المتقدمة، والتى كانت اليابان قد عقدت معها اتفاقيات صداقة وتجارة. كانت البعثة اليابانية الأولى التى أقلتها السفينة الأمريكية بوهاتان ورافقتها تلك القطعة الحربية الجديدة، يقودها طاقم من الشباب اليابانى قد عبرت المحيط الهادى للمرة الأولى لتصل إلى سان فرانسيسكو عام 1860م؛ ولتتوالى بعد ذلك بعثات اليابان الاستكشافية والدراسية إلى أمريكا وأوروبا قبل قيام الدولة الحديثة، ولم تتوقف إلا بعد أن اطمأنت القيادة اليابانية أنها تستطيع المنافسة. فقد كان طموح حكومة الساموراى لا يتعدى الاستكشاف والتعرف، أما حكومة ميجى بعد 1868م فقد استهدفت اللحاق بالدول الغربية الأكثر تقدما، ثم ما لبثت أن عملت على التفوق عليها وتجاوزها. من بين البعثات التى أرسلتها اليابان إلى أوروبا، تلك التى توقفت بمصرعام 1862م قبل افتتاح قناة السويس، وهبط أعضاؤها فى ميناء السويس ليستقلوا القطار إلى القاهرة ثم يتوجهون إلى الإسكندرية، ومنها إلى مرسيليا، وهناك يتنقلون بين الدول الأوروبية. حيث ذكر أحد أعضاء تلك البعثة فى مذكراته كيف كانت دهشتهم وهم يركبون القطار لأول مرة وكأنه التنين ينفث الدخان. علموا أن الانجليز هم الذين مدوا خطوطه فى مصر، فأذكى ذلك فيهم الحماس لإتمام مهمتهم فى انجلترا، وكذلك البعثة التى تلتها فى 1864م يرأسها اللورد «إيكيدا» ذو الثمانية والعشرين عاما المسئول عن العلاقات الخارجية فى حكومة الشوجون، فينزلون فى ضيافة خديو مصر، ويقومون بجولة سياحية فى القاهرة ويلتقطون صورة شهيرة لهم أمام أبى الهول بزيهم التقليدي، ثم يستكملون طريقهم إلى مرسيليا، فقد كانوا مجرد عابرى سبيل إلى الغرب، أما بعد افتتاح قناة السويس فى 1869م والذى يوافق العام الثانى لقيام الدولة اليابانية الحديثة، لم يتوقف اليابانيون إلا فى موانى مدن القناة كغيرهم من العابرين بين الشرق والغرب. ولعل أهم البعثات وأطولها مدة، تلك التى كانت برئاسة النبيل إيواكرا والتى تكونت من مائة شخص من بينهم شباب صاروا على رأس حكومات الدولة الحديثة، والتى بدأت زيارتها لأمريكا وأوروبا فى 1871م وعادت الى طوكيو فى 1873م، تفقدوا فيها أوضاع 12 دولة، وكتبوا تقارير مفصلة عما يشاهدونه، فلم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا ذكروها، فقد كانت تلك البعثات تنقسم إلى مجموعات، يتم تكليف كل مجموعة بدراسة أسباب تقدم تلك الدول، فى مختلف المجالات الصناعية، خاصة بناء السفن والتعليم، والزراعة، والنظم السياسية، والإدارات المحلية، حتى القيم الأخلاقية والأوضاع العقائدية، ويكتبون تقارير وافية تضع أمام صانعى القرار دليلا وافيا لما تحتاج اليه البلاد كى تصل إلى ما وصل إليه الغربيون من تقدم. حرصت تلك البعثات أيضا على أن تضم بين أعضائها صغار السن من الشباب والفتيات، بل ان بعثة ايواكورا هذه كانت تضم طفلة اسمها بتسودا أوميكوا (1864-1929) لم تتجاوز السابعة من عمرها، لتقضى فى أمريكا 11 عاما تتعلم اللغة الانجليزية، ثم تبتعث مرة أخرى لمدة ثلاث سنوات تتخصص فى الأحياء وعلوم التربية لتصبح من القائمين على تعليم الفتيات اليابانيات لتتسع مداركهن ليستوعبن مناحى الحضارة الحديثة، ولها اليوم جامعة للفتيات تحمل اسمها فى العاصمة اليابانية. هكذا نرى أن اليابانيين قد عرفوا ماذا لديهم، وماذا ينقصهم ليستكملوه ويتعلموه من الذين سبقوهم على درب التقدم، ولم يتركوا الأمر للصدفة أو للمجهودات الفردية، فلم ينتظروا أن تهب لهم الصدفة رفاعة طهطاوي، بل إنهم أرسلوا المئات فى بعثات إلى الغرب ليرجعوا بما تحتاجه بلادهم لتمضى قدما فى طريق نهضتها الحديثة. لمزيد من مقالات د. عصام رياض حمزة