الكسندر دوما الكاتب الفرنسى الشهير «1802-1870م» صاحب رواية الكونت ديمونت كريستو، ومؤسس المسرح التاريخى فى باريس، والذى أطلقت فرنسا اسمه على إحدى محطات مترو باريس عام 1970م، وتفتخر فرنسا بأن لديها هذا الكاتب. وكان له ابن كاتب أيضاً يطلقون عليه الكسندر الابن، وفى الليلة الأولى من عرض أولى مسرحيات الابن أرسل إلى والده رسالة قال له: نجاح عظيم يا أبى حتى خيل إلى أننى أشاهد إحدى روائعك، فكتب الأب رسالة وقال له فيها: يا ابنى المحبوب ستظل أنت أعظم أعمالى. ويالعظم وقوة هذه الكلمات لو ندركها جميعاً لتغيرت أشياء كثيرة، لو أدركنا أن الإنسان هو أعظم شيء فى الحياة، وأدركنا أنه أعظم من أى أموال وأى مشاريع وأن قيمة الأمم الحقيقية فى التكوين البشرى لكان للحياة معنى آخر. فلو أدركت الأجهزة الحكومية قيمة الإنسان وكيف يكون هو المشروع الأعظم مهما كان هذا الإنسان فقيراً أو غنياً، فى قرية أو مدينة، ابن إنسان عادى أو ابن شخص له حيثية لكانت القوانين تصاغ لأجله وتختلف سلوكياتنا نحو بعض لأنه هو أعظم شيء. فحين حفر ديليسبس قناة السويس عام 1859م ولمدة عشر سنوات مات فيها مائة وعشرون ألفاً من أبناء مصر وحفرها نحو مليون مصرى، وكانت المعاملة غير آدمية فلم يبال القائم على المشروع بآدمية الإنسان المصرى فمات من العطش والأمراض التى عصفت بالعامل المصرى مئات الألوف، لأنه كانت هناك قناعة لدى ديليسبس بأن المشروع أهم من الإنسان، وليس المشروع لأجل الإنسان. والأسرة التى لا تلتفت إلى أن لأبنائها احتياجات نفسية وعاطفية وروحية مهمة تماماً مثل أهمية الأكل والملبس وتحصيل الدرجات يخرج أبناؤها غير أسوياء. فيجب أن يكون هناك توجه قومى وخطة متكاملة برؤية سوية حقيقية تنتج لنا أجيالاً مستنيرة وليست عشوائية، تربى أنفسها أو تكون فريسة للشارع والنادى والأصدقاء بعشوائية تربوية. ويجب أن يسأل الأب والأم نفسيهما: ماذا نريد من أولادنا؟ هل فقط أن يجمعوا درجات نهائية فى التعليم؟ أم نريد إنساناً سوياً عقلياً ونفسياً وروحياً وجسدياً؟ والعملية التعليمية بالرغم من الجهود الكبيرة التى تبذل الآن للتغيير ولكنها كلها تنصب على المعلومات وكيفية تحصيلها بصورة أفضل ولا نرى مشروعاً متكاملاً للإنسان المصرى فلا نرى مسارح ولا تعليم موسيقى أو مشروعاً ثقافياً بجانب العلم، ولا مشروعاً رياضياً متكاملاً لكل طفل، ولا نجد ندوات تعقد فى المدارس لتأصيل الهوية المصرية. بل فى الحقيقة حتى كتب التاريخ التى تُدرس هى مجرد معلومات ولا تبنى الهوية المصرية الحقيقية. ونعود ونسأل: هل يدرك القائمون على التربية سواء فى الأسرة أو المدارس الهدف الذى يربون عليه فى كل مرحلة؟ فماذا نريد أن يكون عليه أطفالنا ثم شبابنا فى مرحلة المراهقة؟ ثم كيف نعد الشباب لمرحلة النضج؟ ففى حديثى مع الشباب كثيراً ما أجد مفاهيم مغلوطة عن الحرية والديانات الأخرى والضمير والوطن والمواطنة. فمن المسئول عن ترسيخ هذه القيم؟ والحقيقة ليست البيوت ولا المدارس فقط المسئولة عن هذا، فهناك تعليم أخر عن طريق العين، أى ما يراه الطفل سواء من سلوكيات الكبار أو ما يراه فى الشارع، فالذى يتربى وسط أكوام القمامة كيف يمكن أن يتذوق الجمال؟! والذى تربى على الأنغام الشاذة والصخب والأصوات المنفرة كيف يتعلم الموسيقى ويبدع الألحان؟! وهناك أيضاً ثقافة الروح والوجدان فالذى يتربى على الكراهية كيف يحب؟! والذى يرى أمامه نماذج البطولة فيمن يحمل السيف والحجارة ويكون النجم الأشهر هو من يقوم بدور البلطجة وترويع الآخرين سنرى لزاماً هذا منعكسا على سلوك الأطفال والشباب فما يرونه ويتعلمونه ويعجبون به يصير سلوكا لهم. وحتى فى أفلام الكرتون والألعاب الإلكترونية نرى العنف والقتل والصراع الدامى. فهل بعد هذا يخرج أطفالنا أسوياء؟ إننا نحتاج إلى تربية الإنسان المستنير، فحين لا يبالى المجتمع بالاستنارة والمستنيرين يتربى أولادنا فى مناخ مظلم وعلى أيدى الظلاميين. فالتربية التى تقوم على الوعى والإدراك والاستنارة لابد أن تنجب لنا عظماء مثل طه حسين 1989م، فلقد عانى الظلمة على كل المستويات؛ ظلمة جسدية حين فقد عينيه وظلمة مجتمعية، فهو من إحدى قرى مغاغة لمحافظة المنيا ولكنه كان لديه أب أصر على تعليمه رغم فقره وأدخله الأزهر. وكانت مصر فى ذلك الحين فى حالة استنارة كبيرة نتيجة الذين خرجوا وتعلموا فى أوروبا فى عصر محمد على ومن تلاه وعادوا ليغيروا مناخ التعليم والسياسة والمجتمع كله فى مصر. وفتحت الجامعة أبوابها عام 1908م فانتسب إليها ونال درجة الدكتوراة عام 1914م وذهب إلى فرنسا ودرس هناك علم الاجتماع والتاريخ اليونانى والرومانى وأعد الدكتوراه الثانية عن الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون. هذا كله لم يكن من فراغ ولكنه كان نتاج مشروع قومى مدروس وجيل مستنير أتاحت له الدولة أن ينير الطريق لآخرين، فقد تتلمذ فى الأزهر على يد أساتذة كبار مستنيرين مثل الشيخ مصطفى المراغى والشيخ محمد عبده، وفى الجامعة تتلمذ على يد أحمد زكى فى الحضارة الإسلامية، وأحمد كمال باشا فى الحضارة المصرية القديمة، والمستشرق جويرى فى التاريخ والجغرافيا، وكارلو ألفونسو فى الفلك، وميلونى فى الحضارة الشرقية القديمة، وماسينون فى الفلسفة، وكليمانت فى الأدب الفرنسى. كل هؤلاء صنعوا طه حسين وغيرهم من هذا العصر الذين قادوا المجتمع لاستنارة عظيمة خرجت عمالقة مثل العقاد، وزكى نجيب محمود، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وفنانين عظاما فى ذلك العصر. إنها حركة التنوير التى نحتاجها هذه الأيام بجانب المشاريع العظيمة التى تحدث فى مصر، وكما قال الفيلسوف زكى نجيب محمود: مجتمع جديد أو الكارثة. لمزيد من مقالات القمص. أنجيلوس جرجس